وتكشف الحملة الرقمية عن وجه جديد للصراع في سوريا، لم تعد فيه المعارك تخاض فقط في الميدان، بل على مستوى الوعي والسرديات. فالخطاب الطائفي، حين ينتج ويضخم بهذه الطريقة المنظمة، لا يبقى حبيس الفضاء الرقمي، بل يتسرب إلى الواقع، ويعاد تدويره في العلاقات اليومية بين الناس، في بلد أنهكته الحرب ويبحث عن سبيل للنجاة لا عن مبررات جديدة للانقسام.
تجريم خطاب الكراهية
وزارة الإعلام السورية، من جهتها، أكدت في تصريح أن العمل جارٍ على إعداد قوانين تجرم خطاب الكراهية والتحريض الطائفي في الفضاء الرقمي، لكن مراقبين حذروا من أن هذه الإجراءات، ما لم تترافق مع سياسات شاملة تعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، قد تظل غير كافية في ظل بيئة إعلامية مفتوحة وفوضوية، يستخدم فيها الخطاب الرقمي كأداة حرب موازية.
تغريدات طائفية خارجية
وكشفت تقارير اعتمدت على تحليل التغريدات عبر خاصية "ميلت-ووتر"، أن آلاف التغريدات التي ظهرت خلال 48 ساعة فقط من بداية الأحداث، كانت جزءاً من حملة رقمية ممنهجة شاركت فيها حسابات غير سورية، يرتبط بعضها بجهات لبنانية وعراقية وإسرائيلية، إلى جانب شبكات مموهة تفتقر إلى هوية واضحة.
واستند التحليلات إلى أكثر من 5300 تغريدة تناولت أحداث جرمانا وصحنايا، وخلصت إلى أن العديد من هذه المنشورات لم تصدر عن مستخدمين سوريين، بل عن حسابات خارجية استخدمت المنصة لنشر روايات طائفية، وإعادة تدوير الخطاب التحريضي عبر ما يعرف بشبكات "التضخيم الرقمي".
حسابات خارجية
وتبدأ هذه الشبكات عملها من خلال حسابات محورية ذات جماهيرية كبيرة، مثل الحساب العراقي المعروف بـ"نمير الكواك" والحساب اللبناني "أبو علي الديراني"، اللذين نشرا تغريدات ذات مضمون طائفي صريح، عالجت الأحداث من منظور مذهبي ضيق، ما أطلق موجة تفاعل تلقفها جمهور واسع.
وما إن تنتشر هذه التغريدات حتى تتحول إلى مركز إشعاع رقمي تتكثف حوله حسابات مجهولة الهوية، حديثة الإنشاء، لا تظهر صوراً أو أسماء حقيقية، لكنها تنشط بكثافة في أوقات التوتر، وتقوم هذه الحسابات بإعادة التغريد، أو تقتبس المحتوى بإضافة صور وتعليقات ومقاطع مصورة، تساهم في إضفاء طابع عاطفي وتحريضي على الأحداث، مما يخلق انطباعاً بوجود موجة شعبية واسعة تؤيد هذه الخطابات، وتبين أن ما لا يقل عن 54 حساباً قد أنشئ يوم 29 نيسان وحده، في ذروة الاشتباكات، وجميعها شاركت في تضخيم المحتوى الطائفي نفسه.
لجان إلكترونية
يتقاطع هذا النمط الرقمي مع ما يعرف بعمل "اللجان الإلكترونية"، وهي حملات تنشط بشكل منسق لنشر محتوى معين في فترة زمنية قصيرة عبر إعادة التغريد المكثف وتنشيط وسوم محددة، وفي هذا السياق رصد استخدام واسع لهاشتاغات مثل "#حماية_الأقليات"، و"#محرقة_العلويين_في_سوريا"، و"#الدروز_يواجهون_الإبادة"، وكلها وسوم انفعالية استخدمت خطاباً طائفياً مباشراً لتأجيج الخوف والانقسام داخل المجتمع السوري، في وقت كانت البلاد تشهد توتراً داخلياً خطيراً.
وكانت الاشتباكات قد اندلعت في جرمانا على خلفية انتشار تسجيل صوتي مسيء نُسب إلى أحد رجال الدين الدروز، ورغم إطلاق الحكومة السورية تحقيقاً رسمياً حول التسجيل، إلا أن الفضاء الرقمي اتجه نحو تصعيد طائفي خطير دفع الهيئة الروحية للدروز في السويداء إلى إصدار بيان تبرأت فيه من التسجيل ودعت إلى التهدئة، لكن السردية الرقمية اتخذت منحى مغايراً تماماً، حيث تم تصوير الحدث على أنه مواجهة بين طوائف، لا خلاف سياسي أو أمني.
في هذا السياق، برزت مشاركة لافتة لحسابات إسرائيلية، من بينها حساب "جلعاد مئير" الذي روّج لفكرة أن الأقليات في سوريا بحاجة إلى حماية دولية، ملمحاً إلى استعداد إسرائيل للعب هذا الدور. إلى جانبه، نشط الحساب المعروف باسم "مئير مصري"، وهو محاضر في الجامعة العبرية، نشر تغريدات تربط إسرائيل بالدروز والعلويين وتقدم تل أبيب كجهة قادرة على "ضمان سلامتهم"، وغلفت هذه الخطابات برسائل إنسانية، إلا أن باطنها يحمل دعوة صريحة إلى تفتيت سوريا طائفياً حسبما علق ناشطون، وهي استراتيجية تكررت سابقاً في أحداث الساحل السوري مطلع العام.
النظام المخلوع
ولم تكن هذه الحملة الرقمية حكراً على الحسابات غير السورية، إذ دخلت على الخط أيضاً حسابات موالية للنظام السوري، استغلت الأحداث لتبرير روايات تفيد بأن ما يجري هو نتيجة "تفكك الدولة بعد الأسد" وغياب "القبضة الأمنية".
وكثفت حسابات مثل "جورج خوري" و"Vendetta" من خطابها الطائفي خلال هذه الفترة، وسوقت لفكرة أن الأقليات تدفع ثمن الفوضى بعد انهيار النظام، في محاولة لإعادة تقديم النظام السابق كضامن للاستقرار والوحدة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها