newsأسرار المدن

مَن قتل الرضيعة كارول؟

بسمة الخطيبالسبت 2025/05/03
mother.jpg
(لوحة غوستاف كليمت)
حجم الخط
مشاركة عبر
يقول الخبر إنّ رضيعةً ماتت في حضانة. اسمها كارول. عمرها أربعة شهور. بعد أقلّ من ساعتين على إيداع الأمّ لابنتها في الحضانة، اتّصلت إدارة الحضانة لتخبر الأمّ بأنّ ابنتها فقدت الوعي ونقلت للمستشفى. حاول فريق الطوارئ في المستشفى إسعاف الرضيعة لمدّة 45 دقيقة، لكنّ نبضها لم يعُد. أُعلنت الوفاة وذكر الطبيب الشرعي أنّ السبب هو الاختناق من أثر ارتداد الحليب من المعدة.

حضانات الأطفال حول العالم، وفي لبنان بالتحديد، على عكس ما هو مخطّط لها وما تُؤسّس لأجله، ليست أماكن آمنة تماماً للأطفال، ليست "حضناً" آمناً وسالماً بشكل قاطع. رأينا فيديوهات لحاضنات يمارسن العنف الجسديّ واللفظيّ على الأطفال، وعشنا تفاصيل قضايا جنائيّة أفظع. الحقّ أنّه في حضانات الرضّع تحدث التجاوزات الأفظع بحقّ الأطفال عموماً، لسبب بديهي وهو أنّ هؤلاء الرضّع لا يتكلّمون، لا ينقلون لأهلهم ما يعانونه، ولا يحكون عمّن أساء إليهم ومَن أهملهم ومَن ضربهم. قبل يومين أيضاً، انتشر فيديو لكاميرا سرية في حضانة أظهرت إحدى العاملات وهي تمسك شعر طفلة في الثانية من العمر تقريباً فترفعها عن الأرض وتخبطها مراراً.

الحضانات، كأماكن أخرى كثيرة أسّسها البشر، عرضة للحوادث التي تتراوح بين عاديّة ومأسويّة، وهي فضاء لنقاش مفتوح وفضفاض وصادم أحياناً، يضعنا في مواجهة مباشرة مع هواجسنا الإنسانية وكوابيسنا القانونية أيضاً. فكرة الحضانة نفسها هي مثار جدل، لأنها تتقاطع مع ما يتعلق بالتعريف الاجتماعي للأمومة ووظائفها، وبالفطام وعمالة الأمّهات وأجورهنّ وإجازات أمومتهن وتربية الأبناء...

في حادثة موت الرضيعة كارول أبو موسى ذات الشهور الأربعة، اختناقاً بالحليب في حضانة في لبنان، أثير جدل حول مسؤوليّة الأمّ، ووقع اللوم عليها لأنّها بالأساس أرسلت ابنتها الرضيعة إلى الحضانة. وكما مع كلّ حادثة تقع للأطفال، تُلام الأمّ أوّلاً وتوجّه لها أصابع الاتّهام بالتقصير والأنانيّة. غريزيّاً، يعتبر البشر مكان الرضّع الأكثر أماناً هو بيوتهم، وإن لم يكن كذلك دائماً، فالحوادث تقع في المنازل أيضاً. المبالِغون يعتبرون ذاك المكان المنشود في أحضان الأمّهات هو أقصى الحماية.

لكن حتّى هذا ليس محصّناً من الحوادث، فكثيرون ممّن سمعوا عن حوادث منزليّة، والموت الفجائيّ أثناء نوم الطفل في سريره، سمعوا أيضاً عن موت أطفال في أحضان أمّهاتهم أثناء الرضاعة الطبيعية تحديداً، إذ يحدث أن تغفو الأمّ أثناء الإرضاع الطبيعيّ ليلاً فيسدّ ثديها أنف رضيعها ويمنعه من التنفّس. فالأمّهات النفِسات يُصبن بإعياء شديد في الشهور الأولى بعد الزضع، ويُحرمن من النوم، ما يسبّب غفوات لا إراديّة في الليل.

بمتابعة التعليقات التي تتيحها لنا التكنولوجيا اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، وقع اللوم على أمّ الرضيعة، وكونها عاملة، لم يحمِها أو يخفّف من حكم الرأي العامّ القاسي عليها، بل لعلّه زاده. اعتُبرت الأمّ مسؤولة عن موت طفلتها قبل مسؤولية أحد في الحضانة. تمّت المقارنة بين أهمّيّة الوظيفة والأبناء. لمن الأولويّة؟ المعضلة هنا تتعلّق بشكل وثيق بعمالة المرأة وحقوقها. يكون الأمر أقلّ حساسيّة قبل أن تنجب. أجرها أقلّ من الرجل في بعض الحالات والمهن، وترقيتها أصعب.

لكنها، حين تصير أمّاً، يزداد حقل حقوقها القانونية ألغاماً. تصير الأمومة، والعمل أيضاً، عبئاً. تبرز الحاجة هنا إلى القانون لإنصاف الأمّ والأبناء، وهو ما تجسّد في حقّ المرأة في الحصول على إجازة أمومة مدفوعة الأجر. والدة كارول حصلت على إجازة أمومة مدفوعة، كما حال العاملات في القطاعين العامّ والخاصّ في لبنان (70 يوماً)، لكنّها واحدة من أقصر إجازات الأمومة في العالم، وفي العالم العربي أيضاً.

هنا نضع إصبعنا على الجرح، جرح الأمّهات، سواء اللواتي اضطررن إلى ترك وظائفهنّ أو مهنهنّ الحرّة والتضحية بمسيراتهنّ المهنيّة، بل والتضحية بدخلهنّ الذي يحتجنه وعائلاتهن في هذه الأيام الصعبة حينما لم يعد راتب الأب وحده كافياً.، أو اللواتي تراجعت وتيرة تقدّمهنّ المهنيّ بسبب الإجازات غير المدفوعة والاستيداعات المحدودة أو الاستقالات المبكرة لأجل الاهتمام بصغارهنّ. أو اللواتي "أهملن" بيوتهنّ وأطفالهنّ لبعض الوقت على أمل أن تكون الأضرار محدودة، وبعزمٍ على بذل جهود إضافية لذلك.

يجدر بفاجعة موت كارول أن تحرّك قضية إجازة الأمومة في لبنان، بدلاً من الثرثرة حول مسؤوليّة الأمّ وإهمالها. يحبّ الرأي العام أن يصنع مذنباً يُنزل عليه سخطه ويصّوب نحوه الاتّهامات والتقريع، والأمّهات يجتذبن السهام كالمغناطيس. الأمّ هي الحلقة الأضعف وأوّل من يصدّق أنّها تستحقّ اللوم والعقاب. مع الأمومة تأتي مجموعة من المشاعر السلبيّة المبنيّة على سوء فهم وإجحاف، مثل الشعور الدائم بالذنب والتقصير. تتغذّى هذه المشاعر من منظومة مدرارة وشرسة وصلبة، المنظومة الاجتماعيّة العليا التي لا تغفل أيّ تفصيل، من فطام الرضّع إلى صناعة المذنب، أو المذنبة كما في حالة كارول.

إعادة كارول إلى الحياة مستحيلة. محو التعنيف الذي يتعرّض له الأطفال في الحضانات غير ممكن. شفاء قلوب الأمّهات الثكالى صعب. لكنّ تعديل مدّة إجازة الأمومة المدفوعة، وإقرار الإجازة نصف المدفوعة يكاد يكون أجدى ما يمكننا العمل عليه، أو المطالبة به كأضعف الإيمان.


التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث