وبدت أغنيات فيروز وجوليا بطرس وكأنها التعزية الرسمية من الإعلاميين الموالين الذي بثوا تلك الأغنيات في التلفزيون الرسمي أو شاركوها في صفحاتهم الشخصية في مواقع التواصل، بينما لم تنشر الصحف الرسمية الثلاثة، "تشرين" و"البعث" و"الثورة"، سوى مواد رأي معدودة على الأصابع، عن نصرالله، بدت أقرب للشعر الركيك والخطابة الرومانسية، منها إلى مواد الرأي الصحافية،
كررت عبارات التغني بالموت بوصفه "مجداً" و"انتصاراً": "هل امتع من عشق الوطن حتى ننال الشهادة؟ .. فكيف إذا كان الوطن قطعة من السماء؟".
و
نشرت صحيفة "الثورة مثلاً: "بذرة الحق لا تموت. مزروعة بالوجدان قبل أن تغرس بالأرض. بذور نقية أغصانها تلامس السماء بالشهداء وجذورها ضاربة في أعماق الأرض. من قال أن غياب الجسد يعني النهاية. لعلها البداية"، فيما استندت
افتتاحية "البعث" إلى الرسالة الرسمية التي وجهها رئيس النظام بشار الأسد لـ"المقاومة" مع إعطاء الرسالة أيضاً بعداً عاطفياً من ناحية اللغة التي بوصف الصحيفة تبقى "شحيحة" لأن "مدامع الحزن لا تعوض رحيل رجل تصغر الحروف أمامه".
غياب البعد السياسي عن نعوة نصرالله في سوريا التي ترسم لنفسها صورة إعلامية ودعائية كقوة قيادية في "محور الممانعة"، ليس مفاجئاً لأي مراقب خارجي، بقدر ما هو صادم للموالين أنفسهم ممن كانوا يتوهمون أن مشكلة عدم بث خطابات نصرالله على التلفزيون الرسمي في العام الأخير، مرتبطة فقط بقرار شخصي من وزير الإعلام السابق بطرس الحلاق الذي تم استبداله في أيلول/سبتمبر الجاري ضمن الحكومة الجديدة التي أقرها الأسد.
ويحافظ النظام السوري منذ عقود على حياد نسبي ميدانياً مع اسرائيل، ويحتفظ لنفسه بإمكانية المناورة بين الحلفاء والخصوم، بموازاة الخطاب العدائي تجاه تل أبيب إعلامياً ودبلوماسياً، والذي يشكل نوعاً من الدعاية الموجهة نحو الجمهور المحلي بالدرجة الأولى. وبروز تلك الديناميات عبر الإعلام الرسمي والخطاب الدبلوماسي اليوم بموازاة أحداث سياسية وعسكرية تصفها وسائل الإعلام العالمية بأنها "قد تغير شكل الشرق الأوسط"، هو المستجد اليوم ربما.
وبعد الثورة في البلاد والدعم الإيراني للنظام عبر ميليشيات مختلفة من بينها "حزب الله" الذي شارك في المعارك ومازال يتمركز في مناطق سورية عديدة، كان نصرالله دائم الحضور في الشاشات التي نقلت خطاباته وأجرت معه مقابلات حصرية وأفردت له ولحزبه مساحة واسعة
. ولا يمكن نسيان المقابلة الأولى له على شاشة سورية العام 2015 عندما وصفته المذيعة رانيا الذنون، التي ارتدت الحجاب استثنائياً أمامه، بـ"القائد" و"الأب"و"المقاوم" وغيرها من الأوصاف التي رفض شخصياً نسبها إليه وردّها إلى الرئيس السوري بشار الأسد، في صورة تكررت مراراً بين الطرفين لإظهار فكرة الاستقلالية بين "الحلفاء" من دمشق إلى ضاحية بيروت الجنوبية وطهران.
واليوم غابت تلك الأوصاف عن نصرالله ليصبح "مجرد رجل" مهما كانت أوصافه اللاحقة أسطورية. وبهذا يتم اختزال نصرالله كقائد سياسي وتحويله إلى رمزية عاطفية بشكل يقلل من أهمية اغتياله وظروفه، ما يخفف الضغط على السلطة ويحد من ضرورة انخراط في تقديم خطاب سياسي أو عسكري فوري، في وقت يبدو فيه النظام مدركاً أصلاً للضعف الذي يعيشه والذي لا يسمح له أصلاً بالسيطرة على كافة الأراضي السورية مثلما كان عليه الحال قبل ثورة العام 2011.
ترميز نصرالله كان واضحاً إلى حد التنصل من "حزب الله" ككل من بعده،
وهو ما كتبته جريدة "تشرين الحكومية: "لكن في لغة العاطفة وهي حق لنا، لا يمكن الفصل بين الحزب والسيد. ومن المشقة أن نرى وننتظر غير السيد ولا سيما أننا من الجيل الذي عاصره في انتصاراته وخطاباته"، ويشكل ذلك ربما رسالة انفصال سورية عن الحزب وطهران، فيما يخص التصعيد الحالي في المنطقة، بموازاة محاولات الأسد منذ مطلع العام بناء صورته العامة كقائد جماهيري في المنطقة، عبر تحجيم منافسيه على تلك المكانة، حتى الحلفاء منهم، إضافة إلى محاولته التقرب أكثر من دول عربية لطالما عادته في العقد الأخير، وباتت تنفتح عليه دبلوماسياً مؤخراً.
على أن سوريا، تبقى دولة غير قادرة على التحكم في أمورها. وهي إذ وسّعت المسافة بينها وبين طهران، فإنها تزداد التصاقاً بروسيا. ففي تموز/يوليو الماضي، توجه الأسد إلى موسكو بشكل مفاجئ للقاء نظيره فلاديمير بوتين، ودار اللقاء بحسب وسائل الإعلام الروسية، حول إمكانات توسع الحرب في المنطقة، قبل توجيه إسرائيل ضربات أدت الى اغتيال القيادي في "حزب الله" فؤاد شكر في بيروت، ثم رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران، وصولاً إلى سلسلة الاغتيالات الأخيرة في لبنان.
لكن هذا بالتحديد ما لا يفهمه جمهور الموالين الغاضبين من "الرمادية الوطنية" الذين وجهوا الرسائل الغاضبة المباشرة لـ"سيادة الرئيس" في "فايسبوك"، لا لمطالبته بتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية
مثلما كان عليه الحال العام 2019، بل من أجل مطالبة الدولة السورية بالتخلي عن الحياد لأنه "مرض عضال .. وهو البذرة الأولى للخيانة".
يُظهر ذلك كيف تعمل الديناميات في دولة شمولية مثل سوريا الأسد،
حيث تتاجر السلطة الضعيفة بالأزمات منذ عقود كثمن لاستمرارها، وتقدم من أجل ذلك خطاباً أيديولوجياً قائماً على ضخ الشعارات للجمهور الداخلي بالدرجة الأولى، وهو ما يظهر اليوم بعد مقتل نصرالله، الذي يصبح شعاراً يضاف إلى سلسلة الشعارات السابقة التي لا تتمتع بأهمية سياسية سوى لكونها تدور في فلك الأسد وشخصه الذي يصبح محور التركيز والاهتمام، بوصفه الضامن والحامي للقضية والحقوق وعواطف الانتقام وغيرها، لكن "في الوقت والمكان المناسبين"، كما يظهر من تغطية التلفزيون الرسمي الموحدة للحدث في الأيام الأخيرة.
ويكرر الإعلام السوري مثلاً منذ أكثر من خمسين عاماً أن سوريا دولة مركزية ذات أهمية كبيرة في المنطقة والعالم والكَون، ما يجعل الدول من كل حدب وصوب تتهافت عليها طلباً لرضاها وصداقتها أو تتآمر عليها من أجل التقليل من شأنها لأنها تشكل خطراً بسبب تفوقها الأخلاقي والحضاري، ويصدق بعض الموالين ذلك التوصيف رغم أنه يجافي الواقع، ويطالبون القيادة السياسية، في وقت الأزمات الفعلية، بالتحرك بناء على تلك التوقعات التي لا يمكن أن تلبى، ما يخلق نوعاً من الإحباط تقابله السلطة بالقمع واليد الحديدية، ما يعني أن أولئك الذين ينشرون تلك الرسائل للأسد اليوم، سيجبرون على حذفها لاحقاً، وإلا كان اعتقالهم بموجب قوانين الجريمة الإلكترونية الصارمة، حتمياً.
لكن، سوريا نفسها بالموازين السياسية والاقتصادية والثقافية ليست دولة مؤثرة كما يصفها الإعلام الموالي، وليست لها فاعلية كبيرة في المتغيرات الإقليمية القائمة. فلا هي تسهم في الاقتصاد العالمي بموارد ضخمة، ولا تقدم مراكز أبحاث علمية متطورة ولا حتى تنتج أفكاراً تنويرية عبر الفنون والآداب والعلوم الإنسانية (إلا على مستوى أفراد وبجهود ذاتية، وغالباً ممن غادروا البلاد واستفادوا من مناخ الحريات الغربية). لكن ثمة من يعتبر، رغم صغر حجمها الجغرافي نسبياً، أنها تتمتع بمزايا استراتيجية لموقعها في الخريطة تمكنها من لعب دور مهم، كمركز لطرق التجارة وإمدادات الغاز والطاقة على البحر المتوسط، لقربها من أوروبا والدول الغنية بالموارد الطبيعية في الشرق الأوسط على حد سواء.
وسوريا، الدولة التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن طوال تاريخها القصير، سوى عقبة صغيرة ضمن نظام التجارة العالمي القائم على المبادلة الحرة والعولمة والاقتصاد المفتوح. ومنذ سنوات طويلة أدرك قادتها المحدودون ذلك، ربما، ليحولوا البلاد إلى دولة مُصدّرة للأزمات إلى الجوار، وحولوها بذلك الى ورقة ضغط وحيدة وثمينة من أجل بقائهم كنظام واستمرارهم في السلطة، عبر ديناميات مع القوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك تجارة الأسلحة والتهريب في الثمانينيات والتسعينيات، أو دعم الجهاديين والتسامح معهم كما كان الحال إبان غزو العراق، وصولاً إلى تجارة المخدرات وتصنيع الكبتاغون اليوم، وغيرها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها