أستيقظ وكأن بناءً من 10 طبقات دمّرته إسرائيل فوق رأسي، أنفض عني الردم بصعوبة لأحرك أطرافي. أستوي في سريري كمَن بُعث من تحت الأنقاض، أزيل عني ركام دمار قرى بأكملها تشرّبه جسدي المنهك. أحاول التقاط أنفاس مشبعة بغبار كثيف خلّفه انهيار، غبار يحمل الأنفاس الأخيرة لأناس كانوا هناك.
أتنفس بصعوبة فتمتلئ رئتاي برائحة الفوسفور وكل ما حملته الصواريخ المدمرة من سموم. أحاول الوقوف، فلا تقوى عظامي على حمل ثقل ليلة مدججة بالإجرام. أنهض بعبء أرق لم أهنأ معه بسويعات نوم قليلة، حُرم منها أهلي هناك. أجر قدميّ جرّاً لأبدأ نهاري، كأني أسير هناك في مدينتي، في شارع اختفت معالمه، فتسحبني صور جثث الأطفال وتوقفني مرات ومرات صرخات آلام الجرحى.
أغسل وجهي من بقايا رماد عالق تسلل من مشاهد المنازل المدمرة، والذكريات المفجوعة، فأجد ردماً عالقاً في ثنايا تجاعيد العمر. أرش وجهي بالماء لأزيل عن عينيّ غشاوة نيران مشتعلة طوال الليل أمامي على الشاشات، فلا أقوى على كبت دموع تنساب بلا رادع. أمسح وجهي بفوطة نظيفة، أجدها مبتلة بدماء الأبرياء التي تضج بها الصور المتراكمة المتلاحقة في ذاكرتي. أحاول أن أبعد عن سمعي أصوات الانفجارات وجدار الصوت وأزيز المسيّرات، وإن استطعت، فلا يتركني طنين غارات الإبادة.
أضطر أن أبدأ نهاري وعملي ويومياتي، عَين على مهامي، وروح وقلب وعَين على الأخبار المتلاحقة. في الطريق إلى العمل أتوقف عند إشارة المرور، فتأخذني لحظات الصمت إلى مشهد النازحين العالقين على الطرق في يوم النزوح الشهير. أتمنى لو يتوقف بي الزمن هناك، عند مدينة جميلة يُنسيك ليلها تعب وقسوة نهارها، مدينة تمسح برفق عن جبينك قلق الأيام. أتمنى لو أنسى ما تكدّس في عقلي الباطن من مشاهد قصف ودمار وأشلاء شهداء. أحاول ألا أفكّر في ما تسرّب إلى خلاياي من لقطات كأني أشاهد غصباً عني فيلم رعب وإجرام... مسلسل جرائم متواصل من سنوات إلى الآن.
منذ أن ابتلع الحوت قمرنا فلسطين، وانقض بوحشية على جنوب لبنان المقاوم، وكشّر عن أنيابه ليشوّه عاصمتنا الحبيبة بيروت، ومن بعدها بقاعنا الأغر، ومن ثم بثّت آلة تدميره سمومها في كل أصقاع لبنان... هتف الجميع "دشِّر قمرنا يا حوت... أحسن ما نفقع ونموت". لكن لا الحوت أفلت القمر، ولا هم يحزنون.
موجع أن تشاهد الحوت يبتلع قمرك. ومؤلم أكثر أن الحرب سلبتنا الكثير من نوم الليل، وراحة الإجازات، وهدوء الأمسيات، إلى نعمة الوجود بعيداً من العدوان. وتأكد لنا أن الوحوش التي كنا نظنها في الحكايات فقط، موجودة وتهاجمنا في منتصف الليل، فتقض مضاجعنا، وتترك فيها جرحًا بعمق العمر.
بات جرحنا عميقًا موغلًا في الروح. وإن رُمّمت المباني والبيوت، فمَن يردم الهوة العميقة في قلوبنا على أحباء فقدناهم؟ مَن يجبر خواطرنا المكسورة على بيت طفولة خسرناه؟ مَن يعيد إلينا الذكريات التي استشهدت مع مَن رحلوا؟ مَن يداوي وجع العجز في الغربة؟ مَن يعيد إلينا الوطن الجميل؟ مَن يطلق قمرنا من بين فكّي الحوت؟ مَن ينقذنا نحن الضحايا الأحياء؟
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها