مع بداية العام 2024، لم يكن أحد ليتخيل أن يحتفل العالم برأس السنة الجديدة مع شرق أوسط جديد من دون رئيس النظام السوري بشار الأسد أو زعيم "حزب الله" حسن نصرالله. كانت هذه الأسماء، التي ترمز إلى القوة والسيطرة، تبدو راسخة وغير قابلة للزعزعة، في نظر أنصارهما على الأقل، وتجسيداً لهياكل سياسية صمدت أمام الحروب والعقبات والثورات الشعبية والعقوبات الدولية، لكن مع اقتراب نهاية العام، رحل كلاهما، وبقيت الدول التي كانت تحت سيطرتهما هياكل هشة بانتظار من يملأ الفراغ، خصوصاً في سوريا التي سيطرت عليها فصائل المعارضة بمشاركة تنظيمات إسلامية متطرفة.
والسقوط المدوي للرجلين يرسم صورة غير مألوفة للشرق الأوسط، كان في الواقع حتمياً وبدأ قبل سنوات بانتظار لحظته التي عاشها العالم بين أيلول/سبتمبر وكانون الأول/ديسمبر. وترجع تلك الحتمية إلى انعدام الشرعية في كلا الحالتين اللتين تشكلان مثالين متمايزين في كيفية إدارة الدولة غير الديموقراطية، بين المركزية الوحشية في دمشق والدولة داخل دولة في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث معقل "حزب الله" الذي وصف دائماً في الأدبيات السياسية على أنه واحد من أقوى الجماعات المسلحة غير الحكومية في العالم.
ورغم الفرح اللحظي بالتغيير الذي غمر وسائل الإعلام حول العالم ومواقع التواصل، إلا أن استمراره يبقى مرهوناً بإمكانية حدوث انفراجات سياسية تنهي عقوداً من الأزمات وعدم الاستقرار، سواء في لبنان أو في سوريا كدولتين ارتبط مصيرهما بشكل معقد بعد الاستقلال عبر تدخلات سياسية وعسكرية وتوترات، خصوصاً في عهد حافظ الأسد الذي كان يفرض نفوذه على الجار الصغير لفترة طويلة من الوجود العسكري والوصاية التي تنظر لها أطراف لبنانية حتى اليوم على أنها احتلال.
بعكس ذلك، كان "حزب الله" الذي أنشأته إيران في ثمانينيات القرن الماضي كذراع لها في المشرق، عراب نظام بشار الأسد منذ مطلع الألفية الجديدة، حين وصل بشار الأسد للسلطة بعد أسابيع من انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، والدفعة التي أخذها الحزب محلياً من ذلك الحدث المؤطر بوصفه انتصاراً، وغادر الأسد السلطة بعد أسابيع من اغتيال إسرائيل للأمين العام للحزب حسن نصرالله وتصفية أبرز قادته العسكريين والسياسيين وتحييد آلاف من مقاتليه في حادثة تفجير أجهزة "البايجر".
هذا الارتباط الذي حكم الدولتين أعطى زخماً للجانبين، تحديداً للجانب السوري الذي عاش على "إنجازات" الحزب، خصوصاً انه كان متخبطاً في علاقته بلبنان بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ثم الانسحاب من بيروت، والعزلة الدولية التي ساهمت أسماء الأسد في فكها عن نظام الأسد خلال جنازة بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني عندما رفض زعماء العالم الحديث مع بشار الأسد وحتى الوقوف معه لاتهامه بإعطاء الأوامر لعملية الاغتيال. وبعدها تدخل "حزب الله" لجانب النظام السوري عسكرياً ضد الشعب الذي طالب بالحرية والإصلاح السياسي العام 2011، وكان قوة أساسية أطالت عمر النظام الذي تحول بعد الثورة إلى نسخة كارتونية عما كان عليه قبلها، وحكم فقط عبر سياسة الأرض المحروقة متحولاً إلى عصابة مخدرات بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ومع نهاية 2024 ترك الثنائي السابق فراغاً، لدرجة القول أن محور الممانعة الذي كانت تقوده طهران اهتز لدرجة يمكن فيها أن يتفكك كلياً، وليس واضحاً إن كان تأثير ما حصل سيتمدد نحو دول أخرى كإيران، التي واجهت العام 2022 أكبر انتفاضة شعبية ضدها منذ الثورة الإسلامية التي أوصلت رجال الدين المتشددين للسلطة، بعد مقتل الشابة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق بتهمة عدم الالتزام بقوانين اللباس الصارمة، فيما ردت السلطة هناك بمزيد من القيود على النساء في موضوع الحجاب الإجباري تحديداً.
ومهما كان الجواب، فإن الواضح أن التوتر الحالي في سوريا بالتحديد يأخذ شكل استقطاب بشأن شكل الدولة المستقبلية، ليس فقط على المستوى الشعبي بل أيضاً على صعيد المواقف العربية والعالمية تجاه حكام دمشق الجدد، فيما يبقى مثال دول الربيع العربي التي خلعت دكتاتوريها الراسخين السابقين حاضراً، مع الثورات المضادة التي حصلت فيها لاحقاً وأطاحت بالتجارب الجديدة فيها، وعادت لتقديم نسخ أشد صلابة من الأنظمة التي تمت الإطاحة بها، بدليل تراجع الحريات بشكل مروع في كل من مصر التي يترأسها عبد الفتاح السيسي، وتونس التي يترأسها قيس سعيد.
ومع التأكيد على أن الأفراد قد يسقطون، فإن الأنظمة التي يمثلونها تظل قائمة. فالسياسات الطائفية، والحكم العسكري، والتدخلات الأجنبية ليست مجرد أدوات، بل هي أركان يصعب زعزعتها. وفي الحالة السورية ربما لا يكون هنالك كثير من الأمل لأن التجارب المماثلة التي نجحت في الانتقال الديموقراطي بعد ثورات شعبية وحروب أهلية، تبقى شبه معدومة بعد الحرب العالمية الثانية، في العالم ككل وليس فقط في الشرق الأوسط.
والأمر نفسه ينطبق على لبنان الذي لم ينجح حدث بحجم انفجار مرفأ بيروت العام 2020 الذي كان أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، في تحريك السياسة الراكدة القائمة على التقسيم الطائفي منذ الحرب الأهلية في البلاد منتصف سبعينيات القرن الماضي، لدرجة تجعل بالإمكان القول أن لبنان يشكل مستقبل سوريا، من ناحية عدم قدرته على الوصول إلى الاستقرار بعد كل السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العام 1990، وتحول أمراء الحرب بعدها إلى قادة سياسيين وزعماء محليين، فيما تعزز النخب السياسية سيطرتها بدلاً من إفساح المجال أمام تجديد ديموقراطي حقيقي.
وفي هذا المناخ الذي أفرز فجأة، يجد الأفراد أنفسهم وحيدين، متشبثين بهويات طائفية وأيديولوجية ضيقة، لعدم وجود دول تمثلهم أو سلطات ينتمون إليها، ويزيد ذلك من حدة الاستقطاب لدرجة تجعل من خطاب التخوين شائعاً، حتى بحق الأفراد الذين يتحدثون عن قيم يجب ألا تكون خلافية في مجتمعات صحية كالسلام والتعددية والديموقراطية، أو يطالبون ببديهيات مثل حقوق الإنسان والمساواة والتوقف عن ممارسات مروعة كالتعذيب والاعتقال التعسفي، فيما يبقى الهم الاقتصادي حاضراً وعائقاً ومحركاً للأزمات التي تقابل بالتهميش أمام "القضايا المصيرية" مثل الثورة ضد الطغيان أو المقاومة ضد "العدو الصهيوني".
وفي هذا الجو، يبدو من الصعب مطالبة أحد ممن يحتفل بعيد رأس السنة، بالتحلي بالأمل أو التخلي عنه، لأن الأمل سواء كان حقيقياً أو مجرد وهم، يبقى مجرد إحساس بعيد عن المنطق ولا يضيف إلى الطاولة شيئاً، خصوصاً في بلدان عرفت عقوداً من التدخلات الخارجية والتهميش للمواطنين الذين قد يعتقدون أنهم أفراد غير مؤثرين، ومن هنا يجب التأكيد على أن التغيير الفعلي لا يتطلب فقط التخلص من الأسماء الراسخة ورموز الأنظمة الشمولية بقدر ما يتطلب إعادة تصور للحكم والمجتمع ومكانة الأفراد فيه، وهو ما يصعب تحقيقه، جزئياً بسبب عقود من الأدلجة.
في الوقت نفسه، فإن تفاقم المعاناة الفردية يخلق بيئة من الإحباط واليأس، حيث يصبح الحديث عن التغيير رفاهية لا يتحملها كثيرون. ويبقى هنالك أفراد يواجهون ذلك المناخ العدائي بإصرار، ويدعون إلى قيم التعددية والديموقراطية رغم كل التحديات، سواء في أوطانهم أو في المنافي، هم الأمل الوحيد للمنطقة مهما تم تخوينهم أو إطلاق صفات العمالة والرومانسية والانفصال عن الواقع عليهم، بسبب إيمانهم بأن الأمل هو القوة التي تدفع الشعوب إلى المقاومة والاستمرار في مواجهة أنظمة تبدو غير قابلة للتغيير. وإذا كان العام 2024 قد أظهر شيئاً، فهو أن التغيير ممكن، لكنه ليس كافياً من دون إرادة جماعية تقرر أنه يجب المضي قدماً في ذلك التغيير إلى الحد الأقصى.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها