الثلاثاء 2024/12/03

آخر تحديث: 13:41 (بيروت)

سوق الأحد: إخلع "برستيجك"!

الثلاثاء 2024/12/03
سوق الأحد: إخلع "برستيجك"!
بائع حقائب سفر: "لازم تشتري منّي. الدنيا حرب. صار ما صار. بتكون جاهز"
increase حجم الخط decrease
سوق الأحد. كل الناس تعرف، أو تظنّ أنها تعرف، أنّ روّاد السوق هم فقط من الفقراء والمعدمين. حسناً . ليس بالضبط. فمنذ سنوات، للسوق رواده  اللا-افتراضيين، من صيادي الماركات والتحف، والكتب، وربما بعض الفاسدين الجدد. والأهم، أولئك الذين اختاروا طوعاً منذ زمن، ومنهم مثقفون ومتعلمون، الاقتصاد الذاتي الاختياري، ومفاده عدم هدر القليل أو المتوسط من الدخل في سلع كمالية كالملابس والأحذية، لإنفاقه على ما هو أكثر أهمية. قريباً، قد لا يعود هناك مجال للاختيار، بين أن تكون مستعمِلاً، أو مستعمَلاً.

في زيارتك الأولى، يفضل أن تتسلل الى السوق من مدخله الخلفي، المقابل وبكل ندّية، لشركة سيارات "جاغوار" و"فيراري" باهظة الثمن. وحين تتصادم، كتفاً بكتف، بأسراب النازحين الذين تقاطروا من كل محطة رحال اختيرت لهم وبلا أدنى شورى منهم، تدرك أنّ موقعك، في أجندة الحياة، قد يتدحرج أمامك في لحظة. لا تستطيع إلاّ أن تتوقف ذهنيّاً وحرفيّاً، عند زحمة سير بشرية داخل السوق الممتد عشرات الأمتار، والمدجّج بالبسطات تحت ستاندات من الحديد، والخيم المصطفة في ثلاثة أو أربعة صفوف. حركة بطيئة روبوتيّة، منطقيّة بامتياز لشعب تائه.

زوّار متخفّون
علماً أنّه لطالما كان هناك من يتسلل إلى سوق الأحد بسرّية تامّة، كما لو انّه يرتكب فعلةً شنيعة، تحطّ من قدره، فيحرص على التخفّي، بنظّارة أو بملابس لا تشبه شخصيته المطروحة في الأسواق، ويصاب بالهلع من مصادفة من يعرفه، أو حتى يعرف مَن يعرفه. الخجل يكون هناك مؤلماً، حين ترى أمّاً نازحة تتلفت حولها كأنّها ضحيّة إنزال لهناءة عيشها في مملكتها الغابرة، الى عالم آخر، وتستجمع ما تبقّى لها من شجاعة، لتكسو طفلاً يده في يدها. أو عندما تشهد على رجل ببذلة عسكرية يبحث بصبر بين جبال الأحذية ما يناسب أقدام أطفاله الصغيرة غير المدرّبة على العوز.

بوسعك أن تختار، طوعاً أو إجباريّاً، أن تكون من هؤلاء، أو من الشجعان والمستكشفين الذين يعتبرون التعرّف على سوق الأحد فَتحاً نوعياً في التعامل مع ذواتهم، ودرساً عملياً في إدارة الأزمات وترشيد الإنفاق وتحديد الأولويات. أو أن تدخله دخول المهزومين المقهورين بكلّ المعاني، لشراء حذاء مستعمل.

تمارين تنفيس "الإيغو"
قبل الحرب الراهنة، لم تكن لتستغرب وجود أوروبيين، كل همّهم الحصول على ما يلزمهم، وكفى. البارحة لم ألمح أحداً من الأجانب... سوى السوريين، وبعض الأفارقة والفلبينيات.

وهنا طلاب جامعيون، يتضاحكون ويتغامزون على أنفسهم وعلى التجربة، متعاملين معها بروحيّة عمليّة لافتة، باعتبارها "مرحلة وبتمرق" كما أكدّت يارا، لتعود وتنفجر مقهقهة "أو ما بتمرق". فكأنّما ذاك السوق ليس سوقاً، بل مطهراً للعقليات و"الإيغوهات"، وترتيباً  قهرياً طريفاً ومثيراً، للأولويّات والطبقات.

ولن تكون مفارقة، أن تصادف "كاراكتيرات" ممن يعملون في الفن، طبعاً ليسوا من المشاهير. لكن قد يكون أحدهم مخرجاً مبتدئاً، أو "ستايلست"، ممن يتخصصون في  مظهر وصورة النجوم. هؤلاء يجدون ضالتهم، في غرائب الملابس الأجنبيّة أو العتيقة، الطالعة من صندوق ملابس جَدّة كانت عروساً منذ ما يقارب التسعين عاماً. ويؤكدون أنّك لن تجد لهذه البضائع مثيلاً في السوق المحلّي، وإن فعلت، فبسِعر أغلى بما لا يقاس. زِد على هؤلاء مَن يعتمدون على تزويد "بيزنس"خارج السوق، لمتجر تقليدي، أو أونلاين، تلبية لزبائنهم المتطلبين، عبر استيرادهم من "أوروبا وأميركا" سوق الأحد، بضائع بالجملة "نقطفها كشروة" بأسعار ونوعيات خاصة.

وإلى اليسار بعد أدراج قليلة، لا بد أنك ستقف لتحملق في "الأنتيكات" والتحف والأثاث القيّم، والمجوهرات المشغولة، والأحجار الكريمة. في محل "الأنتيكات" ستفاجئك المعروضات بالمفارقة الثانية، هيكلية السوق وهويّاته المتناقضة، ما يشجعك ويغريك أكثر للمضيّ قدماً في مغامرتك الأولى. علماً أن محل الأنتيك الأكبر ذاك، ليس الوحيد في السوق، عدا عن باعة هواة، ممن يستلقطون بعض ما يعثرون عليه، في نفايات البيوت المهجورة أو المجدّدة، من عجائب المقتنيات الشخصية، الضامّة في تلافيفها، ذكريات أشخاص عاشوا ورحلوا. مشهديّة سوريّالية، ساحرة، ومحزنة في آن.

المؤقت المؤبد
صحيح أن سوق الأحد المزروع منذ عقود، على خاصرة جسر النهر، يبدو أقرب الى "المخيّم التجاري"، إلا أنّه ثابت هناك منذ عقود، بقوّة فتوى "المؤقت" اللبناني، الحاصل على "بركات" المؤبد، مما يسمى قوى الأمر الواقع المختلفة، المتفقة على مصالحها. والواقع أن سوق الأحد يستمد شعبيّته من أنّك تجد  فيه كل شيء. حتى الحيوانات على أنواعها، تعوي وتزقزق وتصيح عند مدخله الرئيسي، حيث تتداخل بسطات الخردة والمجوهرات المزيفة، وتختلط فتي أنفك روائح المنظفات والاعشاب والعطور والبهارات، وأحياناً المجارير السارحة بلا رحمة بمحاذاة النهر.

تسالي ورخص وخطر
مغامرة، حتماً. مخاطرة، ربّما. إلا أن الرخص و"اللقطات"، تجعلها حرزانة. لكنّك، إن لم تكن متحسّباً، متمسّكاً بمحفظتك في أوقات الزحام، خصوصاً الظهر، والأحد تحديداً، فقد يحصل أن تكون على تماس مع نشّال أو متحرّش. مكسّرات للتسالي، وأطايب للصغار والكبار، وحكايات وشجارات الباعة والزبائن، ترافق رحلة روّاد السوق، ليعودوا بها، الى منازلهم وعيالهم.  صحيح أن الأسعار في سوق الأحد لم تعد خيالية الرخص، كما يستذكر زبون دوّيم، لكنّها "تبقى أرخص من برّا بمراحل"، خصوصاً بعد ارتفاع الدولار، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وانعكاس ذلك على أسعار البالات المستوردة من الخارج، لا سيما الألبسة، وعلى الرسوم الجمركية التي زادت أضعافاً مضاعفة.

مَسرَب المساعدات؟!
حتّى الآن، هي مغامرة زبون. فماذا لو عرفت أنّ هناك من اختار المغامرة كتاجر أو بائع متمرّن، برتبة مغامر إختياري، بقوة الإجباري؟... في ظلَ بطالة متفاقمة، وحركة نزوح تجاري، الى السوق وحوله، كما في البلد كله. والأدهى ظاهرة انتشار بسطات مستحدثة لبيع الحرامات والفرشات، وبالدولار، كما غمز لنا احد تجار السوق ساخراً: "شو هالصدفة؟!". والأكثر طرافة، بائع حقائب سفر من الأنواع كافة، يحاول شدّك قائلاً: "لازم تشتري منّي. الدنيا حرب. صار ما صار. بتكون جاهز. بتضب اغراضك، وبتهرب"! ومع ذلك كله، يشهد السوق ازدحاماً غير مسبوق، يتوقع له ازدهاراً مضطرداً، عرضاً وطلباً، على ما يبدو، ولا يبدو، من مشاهد الحرب والنزوح. 

بسطات الأساتذة الجامعيين
لكن المفارقة الحقّة، هي أنّ بين باعة سوق المستعمَل والبالة ذاك، أساتذة جامعيون، أساتذة في الفلسفة والهندسة...، ومشرفون على رسائل دكتوراه في جامعاتهم، اكتووا بما يكفي بنار الحاجة وأدخلوا في التجارب، ورفضوا أن يستعملوا، في غير قناعاتهم، ورفضوا أن يذلّهم العوزالمادي على باب زعيم أو طائفة أو حزب. يبشرك أحدهم: "نحن السابقون وأنتم اللاحقون، لنا رفاق شجعتهم التجربة (يضحك) وباتوا يحسدوننا على جرأتنا". لم أسأله "من أنتم"؟ هو اختصر الأمرك "أن تبيع المستعمل لا أن تكونه".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها