تخيل أنك في أي لحظة قد تتعثر في مكان ما، بصورةٍ لطفلٍ يموت جوعاً، أو لبيت يسقط على رأس ساكنيه، أو بخبر عاجل عن انتحار جماعيّ لعشرات النساء خوفاً من الاغتصاب، أولطفل صغير يخرج من المعتقل، أو لرجل عجوز تحولت معاناته بعيداً جداً عن تفقد الأضواء قبل النوم ولوم الأحفاد لإسرافهم في استخدام المحارم الورقية، إلى مكان آخر يتفقد فيه أجزاء أبنائه الباقية أوعدد أحفاده الناجين.
إنه عالم مجنون يفرض علينا كأفراد أن ننجو منه بطريقة ما، تمكننا من الاستمرار فيما نقوم به من أعمال يومية، ونحن مدركون أنه في الوقت نفسه الذي نغسل به وجوهنا كل صباح هناك شخص آخر يفقد يده أو رجله أو ربما رأسه.
النجاة برأسك فقط
النجاة هي الكلمة التي بحثت عنها مطولاً، الكلمة التي حاولت البدء بها أو الكتابة عنها، لكني فشلت، فأمام البدء باليقين بجنون العالم ستبدو كل بداية وكلّ حديث خارج السياق تماماً، لذلك ليكن الأمر على شكل سؤال واحد فقط. سؤال من ذلك النوع الذي ندرك جيداً أننا نسأله فقط كي لا يبقى عالقاً في حلقنا لنختنق به، فمهما بحثنا لن نجد إجابة واحدة مقنعة أو دقيقة بقدر ما قد نجد مجرد إشارة أو تلميح صغير، لا أكثر، لنصل في النهاية إلى تسوية مع أنفسنا ومعهم، يمكن تلخيصها بعبارة تشبه: خذوا كل هذا العالم لكم. وأعطونا منه فقط شرفة صغيرة نزرع فيها وروداً تدير ظهرها لكم.
لكن، من هم هؤلاء الذين وصلنا لتسوية معهم؟ ومع عجزنا عن معرفتهم، وتحديد هويتهم، سنسلّم بأننا لسنا هنا، للشرح، ولستم هناك للفهم، نحن هنا للنجاة فقط. فكلّ ما يحيط بنا يقودنا مباشرة إلى الرغبة بالموت أو الانطفاء أو على أقلّ تقدير، الجلوس على كرسي وسط غرف مغلقة ومعتمة والتحديق بالفراغ الأسود وتخيل شكل العجز.
لنقل الآن أنّ العالم أشبه بحافلة تسير بسرعة هائلة، وأنت الجالس على مقعدك لن تشعر بمقدار الخطر إن لم تخرج رأسك من النافذة، فلتجرب إذاً النجاة برأسك، فقط.
"للحرب أنف كبيرة"
في قصة الكاتبة الفلسطينية شيخة حليوي "للحرب أنف كبيرة" تتحول الجثث ومناظر المنازل والشوارع المهدمة وأصوات الطائرات ومشاهد الموت والجوع والفقر اليومية إلى شكل الحياة الروتينية اليومية، فالموت المتربص بالناس، والقتل اليومي في الشوارع، ومشاهد الدمار التي حلّت بالحيّ، وإحصاء الموتى، لم يشغلها عن التفكير بحجم أنفها الكبير، ورغبتها بتغييره بعملية جراحية، لينتصر جمال عينيها على قباحة أنفها، ولتبدو أكثر جمالاً، ولتواجه الحرب بأنف جميلة: "لو كتب لي الموت في أحد الشوارع أو في سريري أريد أن أموت بأنف جميل".
ربما يبدو من الغريب قول هذا، فمن غير المقنع للكثيرين، خصوصاً للناس البعيدين عن الحروب، للمراقبين الخارجيين الذين يراقبون كل شيء بهلع، الذين لم يذوقوا طعم الهرب من تحت القذائف والبراميل، ولا البحث بين الأشلاء عن وجه أو علامة تثبت قرابة الجثة منك، أنك شخصاً يعيش تلك الظروف قد يهتم بالغبار المتناثر هنا وهناك، أو بالشعر غير المسرح، أو بوضع أحمر الشفاه، أو بتسريحة شعر جديدة ولون جديد، واختيار ألوان الملابس.
لكنه في الحقيقة سيهتم. فهذه الأهوال بعد مدة تصبح جزءاً من حياته، ولأن الإنسان بطبيعته يهوى رش السكر على الموت، سيبحث أيضاً عن أساليب لجعل موته أكثر لطفاً، وحياته البائسة أقل بؤساً. ربما يبدو الأمر انغماساً في فردانيتنا، والتفافاً على ذاتنا، ولكن هذا ما يحدث فالحديث عن نجاة جماعية صار شبه معدوم.
"لينقذنا الحب من الحياة إذاً"
بعد سنوات طويلة من العيش في دمار مستمر لا ينتهي، وعلى كل الأصعدة، صرنا نشعر ضمنياً أننا في حرب شخصية وفردية مع العالم المعدّ سلفاً ليكون طرفاً يحارب ضدنا.
هذا ما كنت أشعر به يومياً وعلى مدار أكثر من ثلاثة عشر سنة، من الحرب، وليس غريباً أنني في هذه الظروف صرت أكثر حساسية وأكثر تعاطفاً مع كل ما يحيط بي، إحساسي بهامشيتي وأنني مجرد عدد يكمل تعداد العالم، كان يختفي تماماً عندما أشعر بأي شيء مهما كان بسيطاً، فمن الجيد أنني مازلت أشعر، أو أحس بجمال الابتسامة في عيني طفل صغير، أو حلاوة الاستفاضة بالحديث مع امرأة كبيرة في السن، تحاول أن تجد شخص ما لتخبره أنّها اليوم نسيت أن تأخذ دواءها، وأن ابنها في ألمانيا وجد عملاً بسرعة، فأنصت لها بعناية وكأني أقول: ها أنا يا خالة أهتم بسماعك، وأهتم لوحدتك، ولحزنك، ولدوائك، ولطنجرة الغداء التي لم تلمس".
دعونا نسمي هذا حباً لكل من يشاركك مأساة العجز. هذا الحب، يخفف عنك عبء عجزك، ويجعل الأمور تبدو أقل سوءاً، والعالم أقل كرهاً، وبؤساً، وهو ما يشعرنا بأننا لسنا وحوشاً. ففي الحرب تحديداً تصبح القلوب مثل علب السكاكر، فقط، مدّ يدك، وستنعم بالحلوى اللذيذة، الشهية والهشة جداً.
وبالتفكير قليلاً سنعرف أن الحرب ليس فقط صواريخ ودبابات ومسيرات، بل تحيط الحرب بنا في كل مكان، حتى في العالم الذي لم يسمع منذ سنين طلقة واحدة. وفي ذلك العالم المسالم هناك أيضاً أشخاص يبحثون عن النجاة، وسينجح الحب أيضاً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها