في أول أيلول جئت إلى برلين، وكان الهدف زيارة أختي والنقاهة، لا السياحة. لم أكن جاهزة للسفر، ولم أشعر أنه وقت النقاهة بعد. كنت بحاجة لأن أبقى في البيت بعدما غادرته أمي، أن أغرق في حزني العميق الذي ما زال مكبوتاً، أن أبقى في بيتنا، بيت أمي وحول كنبتها وبين ملابسها وأمام تلفزيونها. لكن الفيزا تأمنت بعد جهد ورفض سابقَين، فسافرتُ بعد 40 يوماً على وفاة أمي.
كان يفترض أن أبقى عند أختي 33 يوماً، مع إمكان تمديد الإقامة لغاية 45 يوماً. لكن، بعد أسبوعين من إقامتي، وقع اعتداء البايجر، ثم التوكي ووكي، ثم توالت الاعتداءات والاغتيالات والمجازر. وبما أنه لم تكن ممكنة العودة إلى بيتي في جنوب لبنان الذي غادره أهلي وأقاربي وجيراني، استطعتُ تجديد الفيزا لمدة شهر إضافي، مما سمح لي بالبقاء مجمل 70 يوماً.
وفي إحدى هذه الأيام الممددة، وبينما كنت أحسبها، قفز الرقم 100 إلى حساباتي. ثم شعرت أن الرقم غير دقيق، فلا يمكن أن تكون الأيام قد تخطت الـ70 يوماً حتى. من أين أتى الرقم 100؟ ثم انتبهتُ أن أبطال مسلسل Lost، الذي بدأت بمتابعته بالتزامن مع بدء الحرب، هم مَن أمضوا 100 يوم في الجزيرة، لا أنا.
في العام 2012، كان زملائي في العمل يجتمعون كل يوم بعد الدوام في منزل أحدهم لمشاهدة المسلسل، لكني لم أكن معهم، لا أذكر لماذا. لطالما قلت أني أريد مشاهدة هذا المسلسل الطويل... إلى أن "علقت" في برلين!
كنت لا أزال ضمن المدة الأساسية من رحلتي، وقد فهمت أنه لا مفرّ لي سوى محاولة التقدم لتمديد الإقامة بما أن الحرب توسعت وقد تطول، وبدأت أفقد هدوئي، والطمأنينة المحدودة التي كنت قد حافظتُ عليها، وبدأت أشعر بآلام في مفاصلي والعظم، وهي طريقتي أو طريقة جهازي العصبي ربما في التعامل مع القلق والعجز.
لجأتُ إلى Lost، لأني عند العجز، أهرب. هربتُ من التفكير في أخي البعيد، وأهلي وجيراني وأصحابي، وبيتي الذي أرعبتني فكرة خسارته، وأغراضي ولوحاتي وملابسي وصُوري وصُور أهلي، وحديقتي وسيارتي وكلبتي. هربتُ من عجزي التام. وفيما هرَب مَن هرَب من بيت إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، هربتُ وأنا أصلًا في برلين إلى الجزيرة التي ضاع فيها ركاب الرحلة 815 المشؤومة.
في البداية ظننت أني أهرب إلى مكان وأحداث مختلفة، لكني، مع كل حلقة، رحت أكتشف أني أغرق أكثر في ظروف مشابهة لما أهرب منه ويعجزني. غرقت كل يوم في مشاهدة أكثر من 5 حلقات من المسلسل. هم كانوا على جزيرة، بعيداً من حيث يجب أن يكونوا، مثلي تماماً. خائفون وعاجزون، مثلي تماماً. يتوقعون العودة، لكن ظروف عودتهم تتعقد على مدار الساعة، مثلي تماماً. ضعتُ مثلهم في مكان كان يفترض أن أكون فيه مجرد عابرة ، حتى أني مثلهم لدي هنا أغراض قليلة، تلك التي اتسعت لها حقيبة السفر. وفيما هم ينتظرون ما تقدمه لهم الجزيرة لإعادة استخدامه، أنتظر أنا ما يقدمه لي "سوق الأحد" ومحلات الملابس المستعملة، بالإضافة إلى أغراض أختي بطبيعة الحال. غير أني، وعلى عكس أبطال المسلسل الضائعين، عرفت، على مدار الساعة، ما يحصل في مكاني المفترض أن أعود إليه. وهم، على عكسي، كانوا يحاولون ما بوسعهم كي يغادروا، أما أنا فلم يكن لي وسع سوى الانتظار والندب.
ماضيهم البعيد والقريب يلاحقهم مع أشباحه، كأنهم ضاعوا في هذه الجزيرة ليفهموا ما حصل معهم في حيواتهم السابقة، ويفككوه، ثم ربما يتصالحون معه. وأنا لم يفارقني كل ما تركت. رأيتُ أمي طوال الوقت، وأنا صاحية. حاسبتُ نفسي على كل ما لم أفعله لها، كيف لم أتحدث معها أكثر وكيف لم أمزح معها في الفترة الأخيرة كما كنت أفعل سابقاً. كيف كنت أغضب من دون أن أخفي غضبي أمامها. هل تخليتُ عنها قبل أن ترحل، فرحَلَت؟
لم أملك حيلة لفعل أي شيء على الإطلاق، سوى النظر في صورة أمي التي وضعتها أختي في منزلها على الطاولة. علقتُ مثل أبطال Lost، وطاردني شبح أمي، وحزني الذي أخذت منه وقتاً مستقطعاً كي آتي إلى هنا، وعجزت هنا عن متابعته والحداد الذي كنت قد بدأت أدخله قبل سفري.
طاردني أيضًا شبح بيتي الذي، رغم بُعده من الحدود حيث حصة التدمير الأكبر، صار ككل البيوت عرضة للأذى وربما الاختفاء. وفكرت في كل الصور التي أخذتها للبيت وحديقته وبَحره وسُوره، وكل رسومي التي صوَّرته مع أشيائي فيه. كنت أرتعب كلما فكرتُ أن صُوره في موبايلي هي ربما كل ما سيبقى لي من البيت. كأن البيت كان يقول لي أشياء لم أفهمها حينها، تمامًا كما أن حياة أبطال Lost قبل أن يضيعوا، كانت أحداثًا ستوصلهم إلى الجزيرة.
تحايلتُ على عقلي فأوهمته بأن الحرب ستنتهي مع مشاهدة الحلقة الأخيرة من المسلسل. ولكي أصدّق نبوءتي، حاولتُ المواءمة بين تصاعد وتيرة الإجرام الإسرائيلي، وبين عدد الحلقات التي أتابعها، فصرتُ أتقشّف في عدد الحلقات التي أشاهدها يومياً عند اشتداد الغارات، وفي وقت المفاوضات زدتُ الجرعات، آملةً في أن أنتهي منها بالتزامن مع نتائج المفاوضات. لكن الأمر لم يدم طويلًا، فرغم التقنين، شاهدتُ حلقات المسلسل كلها، وعاد مِن أبطاله مَن عاد، وبقي مَن بقى، في ظل أحداث وتعقيدات لم أفهمها تماماً، كتعقيدات لبنان التي حالت دون أن تتوقف الحرب ودون عودتي في "موعدي".
انتهت مدة السبعين يوماً، ومجدداً، تمكنتُ بفضل متابعة أختي من تمديد الإقامة ستة أشهر إضافية هذه المرة. لم أعرف كم منها سأمضيه هنا، حيث لا أحد في المقهى يعرفني إلا صديقي حسين الذي أتبادل معه الخوف والقلق والكثير من الغضب والشتائم، من دون أن يفهم أيِّ ممّن حولنا شيئاً، وهو ما كان سبباً آخر لكَيل المزيد من الشتائم والضحك الهستيري أحياناً.
وفي الساعات الأولى من يومي الـ85 في برلين، وبعد 70 يوماً من عدوان البايجر، أعلن سريان اتفاق وقف إطلاق النار.
الجرّاح "جاك"، أحد ركاب الطائرة الضائعين، أخبر صديقته "كايت" العالقة معه في الجزيرة، وفي محاولة منه لجعلها تتخطى لحظات خوف وقلق، أنه أثناء إجرائه الجراحة الأولى، شعر برعب فظيع، فسمح لنفسه بالخوف لثوانِ فقط، عدّ خلالها من واحد إلى خمسة، ثم خرج من حالة الرعب وأجرى الجراحة.
هذا ما حصل معي في بداية الحرب: سمحت للرعب أن يأكلني طوال يوم كامل. خارت كل قواي، وأصبت بآلام شديدة في كل مفاصلي، وتصورت أسوأ ما يمكن أن يحدث، وندبت كل ما يمكن خسارته. كدّست الخسارة وكثّفتُ الخوف، وحصرتهما في ذاك اليوم فقط، كي لا يتسللا إلى كل أيامي العاجزة.
والآن، بعد إعلان وقف الحرب، وبعد الإطمئنان على الأهل والأحبة والأصحاب والجيران والبيت، والفرح لعودة العائدين والأمنيات بعدم اضطرار أحد لترك منزله، وفي انتظار حجز بطاقة سفر العودة، وقبل أن يحصل مجددًا ما يضطرني للسماح لنفسي بالخوف لخمس ثوانٍ... سأفكر كيف سأحضن أخي وبيتي وكلبتي، وكيف سأرسم ابتسامة هازئة بالكاد تظهر على زاوية فمي اليمنى، لأواجه بها مهرجانات الانتصار المتخيّل.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها