مرّ أكثر من عام من المواجهات العسكرية بين إسرائيل و"حزب الله"، والتي توسعت إلى حرب شنتها إسرائيل في لبنان منذ 23 أيلول/سبتمبر 2023. كانت هذه الفترة الزمنية كافية للقول أن إسرائيل تعمدت قتل الصحافيين في لبنان كما فعلت في غزة، من دون محاسبة دولية، وفي إفلات مستمر من العقاب.
وقبل يومين من إعلان وقف إطلاق النار برعاية فرنسية وأميركية، نشرت صحيفة "غارديان" البريطانية تحقيقاً كشف أن إسرائيل استخدمت أسلحة أميركية لاستهداف مقر للصحافيين في حاصبيا في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ما أسفر عن مقتل ثلاثة منهم، هم المصوران غسان نجار ووسام قاسم، والفني محمد رضا.
ووصف خبراء قانونيون الحادثة للصحيفة بأنها جريمة حرب محتملة، علماً أن تحليل "غارديان" لبقايا الذخائر، وجد أنها من صنع شركة "بوينغ" الأميركية التي تأسست العام 1917 على يد المهندس الأميركي وليام إدوارد بوينغ، ويقع مقرها الرئيسي في واشنطن، وتعد أكبر منتج للطائرات التجارية والعسكرية، وأنظمة الأمان والفضاء.
وبموجب القانون الأميركي، فإن استخدام دولة ما لأسلحة زودتها بها الولايات المتحدة في جريمة حرب يستوجب تعليق المساعدات العسكرية لتلك الدولة. لكن هذا القانون، بقي حبراً على ورق بين إسرائيل والولايات المتحدة. وطوال الحرب، كانت إسرائيل تتذرع بأنها تضرب أهدافاً عسكرية لـ"حزب الله" وبنى تحتية تابعة له، لكن القتل المتعمد للصحافيين واستهداف مقراتهم التي كانت تضم صحافيين من جنسيات مختلفة ومن وسائل إعلام عالمية وأجنبية ومحلية، يبقى نقيضاً دامغاً لروايتها.
وعلقت المديرة المشاركة في "معهد أوكسفورد لحقوق الإنسان" جانينا ديل، على تحقيق "غارديان" بأن الربط بين الصحافيين وانتمائهم المفترض أو توجهاتهم السياسية، ومن ثم تحويلهم إلى أهداف عسكرية، هو اتجاه خطير شهده العالم في غزة ولبنان، ولا يتوافق مع القانون الدولي.
وقالت الأمم المتحدة في وقت سابق أن قتل الصحافيين في غزة يفوق أي حرب أخرى منذ عقود. أما في لبنان، فقتلت إسرائيل تسعة صحافيين، كان أولهم عصام عبدالله في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى. لكن تحقيق العدالة الدولية في قتل الصحافيين على يد إسرائيل يبدو أمراً صعباً للغاية.
في هذا الإطار، قال رئيس مؤسسة "JUSTICIA"، الدكتور بول مرقص، لـ"المدن"، أن اتفاقيات جنيف الأربع توفر حماية للمدنيين وغير المقاتلين خلال النزاعات المسلحة، ووقعت إسرائيل على هذه الاتفاقيات من دون المصادقة عليها.
وفي البروتوكول الأول لسنة 1977، وتحديداً المادة رقم 79 منه، ينص على وجوب حماية الصحافيين، لكن إسرائيل لم تلتزم بهذا الحكم وفقاً لمرقص. ويوفر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف المتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، حماية خاصة للصحافيين الذين ليس لديهم صلة بالقوات المسلحة. وتنص الفقرة الأولى من المادة على أن الصحافيين الذين يؤدون مهمات خطيرة في مناطق النزاعات المسلحة، يجب حمايتهم بمقتضى أحكام الاتفاقيات كأشخاص مدنيين.
عملياً، تمكنت إسرائيل من إرسال رسالة تهديد صريحة بالقتل إلى مختلف الصحافيين العاملين في ميدان الحرب. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها الصحافيون في التغطيات، فإن تهديد إسرائيل لهم شكل عقبة وعائقاً أمام إنجاز مهماتهم في نقل الصورة والحقيقة. كما فرضت إسرائيل عبر تهديدها المستمر للصحافيين خطوطاً حمراء، قوضت عملهم في الوصول إلى المعلومات الكاملة ونقل الحقائق إلى الرأي العام المحلي والدولي، بعدما وضعتهم في مرمى النار.
في هذا الإطار، أشارت المديرة التنفيذية في مؤسسة "مهارات"، رلى مخايل، إلى التقرير الذي أنجزته المؤسسة "حرب بلا خطوط حمراء"، الذي وفر أدلة كافية للقول أن الصحافيين كانوا هدفاً مباشراً خلال الحرب، حيث تعرضوا لاستهداف ممنهج أثناء تغطيتهم للأحداث.
وفي تقريرها، طالبت "مهارات" المجتمع الدولي بالتضامن الفعلي مع الصحافيين، عبر تطبيق الآليات القانونية الدولية، ووضع حد لسياسة الإفلات من العقاب التي تنتهجها إسرائيل في قتل الصحافيين. وقالت مخايل: "هذا النمط وثقته تقارير دولية أيضاً حول قتل الصحافيين في مناطق النزاع في لبنان وغزة. وكل التقارير التي صدرت أشارت إلى أن هذه الانتهاكات ليست حالات معزولة، بل تعكس استراتيجية متعمدة لإسكات الإعلام".
وبحسب مخايل، تشكل هذه الممارسات تعارضاً جلياً مع القانون الدولي الإنساني الذي يفرض حماية الصحافيين بوصفهم مدنيين أثناء النزاعات. ووجدت مخايل في تحقيق "غارديان" تأكيداً إضافياً على أن قصف مركز للصحافيين في منطقة حاصبيا لم يكن نتيجة أخطاء عسكرية، "بل قد يكون متعمداً، ويعزز فرضية القتل الممنهج، وهذا ما شهد عليه الصحافيون الذين نجوا من الاستهداف في ذلك اليوم".
ويحمل إفلات إسرائيل من العقاب على جرائمها ضد الصحافيين، تداعيات خطيرة على حرية الصحافة وحقوق الإنسان. وعادت مخايل إلى تقرير "يونيسكو" وخطة الأمم المتحدة بشأن سلامة الصحافيين، الذي يكشف أن 9 من كل 10 جرائم قتل للصحافيين تمر من دون عقاب، ما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب عالمياً.
وذكرت مخايل أن إسرائيل تعد من بين دول الشرق الأوسط التي وثق تاريخها استهدافاً متكرراً للصحافيين من دون محاسبة، وهي جرائم وثقتها تقارير دولية أيضاً. ودعت تلك التقارير المجتمع الدولي، لاتخاذ إجراءات حازمة لردع جرائم قتل الصحافيين. وبالتالي، "إن عدم المحاسبة يقوض مصداقية القانون الدولي، ويشجع جهات أخرى على ارتكاب انتهاكات مماثلة بحق الصحافيين. وهذا ما نشهده اليوم للأسف".
أما المجتمع الدولي، فتقع على عاتقه بحسب مخايل، مسؤولية أخلاقية وقانونية لضمان حماية الصحافيين، خصوصاً في أوقات النزاعات. وخطة الأمم المتحدة بشأن سلامة الصحافيين ومسألة الإفلات من العقاب، وكذلك القرار 2222 الصادر عن مجلس الأمن، "تمثل إطاراً واضحاً يفرض على الدول تعزيز حماية الصحافيين ومحاسبة المعتدين عليهم".
رغم ذلك، مازالت الجهود الدولية قاصرة، كما أظهرت التقارير. وأوضحت مخايل: "لا بد من الإشارة إلى أن استهداف الصحافيين في 25 تشرين الأول/أكتوبر، وقع قبل أيام من اليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين".
هذا اليوم الذي تم تخصيصه منذ أكثر من 10 سنوات لتسليط الضوء على هذه الانتهاكات، لم يكن كافياً حتى الآن لردع الجهات المعتدية، بحسب مخايل، لأن الحرب على لبنان وغزة، وطوال أكثر من عام، "أثبتت أن وضع الإشارة الصحافية وارتداء الخوذ والدروع لم يعد يوفر الحماية للصحافيين. والمطلوب هو تفعيل أدوات القانون الدولي الإنساني بشكل أكثر فعالية، مع التركيز على التحقيق والمساءلة. لأنه من دون مساءلة، لا يمكن تحقيق العدالة".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها