وفي آذار/مارس 2020 اتفقت روسيا الداعمة لنظام الأسد، وتركيا الداعمة لفصائل المعارضة، على وقف إطلاق النار، ما أدى إلى وقف المواجهات العسكرية في آخر معقل كبير للمسلحين في شمال غربي سوريا. وعادت أسماء بلدات وقرى ومقرات عسكرية كانت حاضرة دائماً في الأخبار، للتداول، من بلدتي نبل والزهراء حيث غالبية شيعية، إلى مطار "النيرب" العسكري، وغيرها، فيما تقول الفصائل المعارضة، أنها ترد على تصعيد الضربات في الأسابيع الماضية من طرف النظام وحلفائه على المدنيين في إدلب.
وتحيل قراءة المنشورات في مواقع التواصل، إلى شعور بالتنقل عبر الزمن عشر سنوات إلى الماضي، مع المصطلحات واللغة والأماكن والجهات الفاعلة نفسها، والرومانسية الثورية ذاته التي لم يتخلص منها المعارضون للنظام تحديداً بعد أكثر من 13 عاماً على انطلاق الثورة السورية، وبموجبها يتم الاحتفاء بسرعة بأي عمليات عسكرية في بلد مأزوم لمجرد أنها تحدث ضد "النظام الغاشم"، مع تجاهل طبيعة الفصائل المعارضة التي لا تقل ظلامية عن النظام، وتختلف معه في الهوية الطائفية/الدينية، لا أكثر.
وربما يعود ذلك إلى أن الموقف السياسي والإنساني من النظام السوري بوصفه نظاماً شمولياً يتحكم بالسلطة منذ أكثر من خمسة عقود بقبضة حديدية، بات منذ العام 2011 يشكل جوهراً لهويات الأفراد ومحدداً للمنطق الذي يرون به العالم من حولهم، حتى لو كان من غير الممكن لأي مراقب خارجي اليوم النظر إلى جهات فاعلة مثل "هيئة تحرير الشام" على أنها فصائل نبيلة تقاتل من أجل الحرية، خصوصاً أن النموذج الذي طرحته في إدلب، كان مروعاً من ناحية الانتهاكات، ليس فقط بحق الصحافيين والناشطين العلمانيين، بل بحق المدنيين، فيما كانت المظاهرات ضد الهيئة الجهادية التي فكت ارتباطها شكلياً بـ"تنظيم القاعدة" العام 2016، حاضرة بشكل متقطع خلال السنوات الأربع الماضية.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للفصائل الأخرى مثل "الجيش الوطني" الموالي لأنقرة، وهو عبارة عن حوالي 30 فصيلاً يتقاسمون السيطرة على المنطقة الحدودية الممتدة من جرابلس في ريف حلب الشمالي الشرقي، إلى منطقة عفرين في ريفها الغربي. وسبق أن اتهمت منظمة العفو الدولية "أمنستي" تلك الفصائل بارتكاب "جرائم حرب" وتنفيذ عمليات إعدام عشوائية خارج القانون، فيما يتهم سكان المنطقة تلك الفصائل بانتهاكات من بينها مصادرة أراض وممتلكات ومحاصيل زراعية، وتنفيذ اعتقالات عشوائية خصوصاً لمواطنين أكراد، وإدارة المنطقة بقوة السلاح والتخويف، وصولاً لتكرار حوادث الاعتقال والتعذيب لناشطين وصحافيين.
وتبرز تلك الفجوة في مواقع التواصل اليوم. فبينما تنشر الحسابات التابعة للفصائل المعارضة والموالين فكرياً وسياسياً لها من أفراد وجماعات، بكل وضوح أن المعركة هي بين مجاهدين سنّة ضد كفار علويين، يقدم كثير من المعارضين وجهة نظر تختار غض النظر عن تلك الجزئية لصالح الحديث فقط عن معركة ضد النظام و"ميليشيات الحقد الطائفي"، في إشارة للميليشيات الإيرانية، من أجل "توسيع مساحة المناطق المحررة" وعودة "ثورة الكرامة" إلى المشهد.
والمشكلة هنا، هي أن تلك السردية القائمة على عالم الخير المطلق والشر المطلق، قاصرة لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار تفاصيل وتبعات النزاع الإنسانية والسياسية حتى اليوم. ويصبح نزع صفة الحرب الأهلية والصراع الطائفي عن الحدث السوري إنكاراً للواقع ربما، لصالح سردية "الثورة". مع الإشارة إلى أن الحديث عن البُعد الطائفي للحرب السورية ليس جديداً، لكنه كان دائماً زاوية ينطلق منها النظام السوري وحلفاؤه لاتهام كافة معارضيه بالإرهاب والجهادية الإسلامية، وهو أمر ليس دقيقاً، خصوصاً أن الثورة السورية في بدايتها لم تكن تطالب حتى بإسقاط النظام بقدر ما كانت تنادي بإصلاحات سياسية، قبل أن تتطور أحداثها بشكل داراماتيكي إثر اعتماد دمشق الحل الأمني ثم سياسة الأرض المحروقة، ما أدى إلى العسكرة والأسلمة لاحقاً.
ويمكن تفهم تمسك المعارضين بهويتهم كمعارضين ربما، بالنظر لسردية النظام السوري، الذي
طوال سنوات وصف عبر إعلامه ورئيسه بشار الأسد، الثورة السورية، بأنها "ثورة مزيفة" لأن "الثورة الحقيقية هي ثورة حزب البعث العام 1963". وطوال أكثر من عقد، وُصف المعارضون السوريون بأنهم "مندسون" و"مأجورون" و"عملاء" و"خونة" و"حيوانات" بحسب تعبير الأسد شخصياً في
خطاب له العام 2020. وليس من الغريب بالتالي أن يتمسك المعارضون بتوصيفهم كثوار، حتى بعد فشل الثورة السورية وتحولها إلى سياق عنيف لم يُفضِ فقط إلى "الحرب الأهلية" بل إلى حرب "بروكسي" شاركت فيها دول وميليشيات مع النظام وضده ، ما أفضى إلى أسوأ أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية بحسب توصيف الأمم المتحدة.
بعكس ذلك، طغت منذ العام 2018
سردية أخرى في وسائل الإعلام العالمية وصفت ما يجري في سوريا بأنه "صراع على السلطة"، وبدأت تطرح تساؤلاً جوهرياً عمّا إذا كانت الثورة السورية قامت كحركة تمثل صراعاً على السلطة فحسب، من أجل استبدال حكم علوي بآخر سني ضمن مفهوم الهويات الطائفية؟
وبحسب مجلة "ناشيونال إنترست"، فإن المعارضة في سوريا افتقرت إلى استراتيجية سياسية متسقة، وكانت لديها رؤية عامة تفتقر إلى اتفاق المعارضين على التفاصيل للوصول إلى سوريا ديموقراطية. ولتحقيق ذلك الهدف، قامت المعارضة بخطوتين متناقضتين: غضت الطرف عن أي أخطاء قامت بها أطراف ملتزمة بإطاحة بشار الأسد، ورفضت التوصل إلى سلام مع فصائل لم تتفق معها. ويمكن ترجمة ذلك على أرض الواقع بتصريحات لمعارضين مختلفين، حول التنظيمات المتطرفة، بما في ذلك تصريح شهير للمعارض الراحل ميشيل كيلو اعتبر فيه جبهة النصرة المتربطة بـ"القاعدة" جزءاً من الثورة السورية.
وفي الوقت نفسه كان السوريون المعارضون يروجون لصورة مثالية فوق واقعية للثورة السورية لمجرد أنها حركة تحرر ضد نظام مستبد متمسك بالسلطة منذ عقود بيد حديدية. ويمكن الدلالة على ذلك
بالشهادة التي قدمها الإعلامي السوري إياد شربجي العام 2022 حول المونتاج الذي خضعت له بعض مقاطع الفيديو المصورة في بداية الثورة السورية من أجل خلق صورة نظيفة خالية من الشعارات الجهادية والإسلامية مبرراً ذلك بأنه كان فعلاً وطنياً يدعم به الخطاب العام للثورة السلمية لتنقيتها من الشوائب النادرة فيها. لكن ذلك جعل نواة الإرهاب الكامنة، تكبر وتتمدد، بدلاً من محاربتها من الداخل، ما جعل الثورة السورية تستقطب، بعد سنوات، جهاديين من حول العالم سيطروا تماماً على المشهد.
واليوم يتكرر الموضوع نفسه مع انتشار "نصائح" في مواقع التواصل للتعامل الإعلامي مع المعركة، تفيد بتجنب "أخطاء سابقة" مثل "عدم تصوير أي جثث قتلى للنظام وعدم إظهار صور للأسرى وإن كان ولا بد فليظهروا بصورة حسنة وإكرام" والتركيز على أن "جل عناصر النظام من السنة، منهم المُكره، ومنهم من لم يستطع الانشقاق".
وفي المحصلة، تبدو سوريا عالقة في دائرة مفرغة من السرديات المتناقضة التي تحجب الحقائق وتغذي الانقسامات. كل طرف يُصوّر صراعه على أنه مواجهة وجودية بين "خير مطلق" و"شر مطلق"، بينما الواقع أكثر تعقيداً وأكثر سوداوية مما يريد أي من الطرفين الاعتراف به. ومع استمرار الصراع وإعادة تدويره، تتضح الحاجة إلى إعادة تعريف الأولويات، ليس من خلال انتصارات عسكرية جديدة أو شعارات أيديولوجية مستهلكة، بل عبر معالجة جذور الأزمة التي تكمن في غياب مشروع سياسي جامع يضع مصلحة السوريين فوق كل اعتبار وغياب الجهات التي تمتلك الشرعية أصلاً لتقديم تلك الطروحات، ما يعزز فقط الكارثة الإنسانية والسياسية القائمة أصلاً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها