الخميس 2024/10/10

آخر تحديث: 15:49 (بيروت)

أمان خانق.. ودمار يغتال ما تبقى فينا

الخميس 2024/10/10
أمان خانق.. ودمار يغتال ما تبقى فينا
"بلا عنوان" للفنان اللبناني جان خليفة (1923-1978)
increase حجم الخط decrease
تعجز العيون عن اعتياد بعض المشاهد، فمع كل رشقة صاروخية كنت ألمحها متجهة نحو منزلَي أبي وأخي في حارة حريك وبرج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت، كنت أشعر بقبضة صلبة تطوّق قلبي وتحبس أنفاسي للحظات، قبل أن أتصل بأبي وأخوتي للاطمئنان بأن الصاروخ لم يسقط على منازلهم. لكن تلك الرشقات كانت متتالية ومتسارعة، فما إن أغلق مكالمة حتى أعاود إجراءها من جديد، وأنتظر الرد بجفاف يصيب حلقي ورجفة في أطرافي: أين سقط الصاروخ؟! هل أنتم في المنزل؟ أرجوكم هيا اخرجوا وبيتي مفتوح لكم.. ماذا تنتظرون؟!

لقد كان لذلك العناد وقعه الصاروخي في أعماقي، فهم يتمسكون باللاشيء مقابل كل شيء، يتمسكون بصمودهم ويفاخرون به، رغم أنه لن يفيدهم في الحرب! ليسوا وحدهم، بل جميع من طاول القصف مناطقهم، رفضوا الخروج من منازلهم حتى اللحظة الأخيرة، فقد علق الجنوبيون ما بين 8 و12 ساعة على الطريق المؤدي إلى بيروت في الأيام الأولى للحرب، لا لشيء سوى لأنهم انتظروا لحظة الموت المحتّم قبل قبولهم بمغادرة قراهم ومنازلهم، وهو ما فعله سكّان الضاحية في المناطق التي لم تُقصف في بداية الحرب، والأمر نفسه انطبق على سكّان البقاع!

لا أظن أن الصمود كان دافعهم الوحيد، فثمة انصياع عاطفي للموت يصيب من يعيشون الحروب، إذ يلجأ بعضهم للتسليم، ويستمتع بعضهم الآخر بخوف من حولهم عليهم، بسبب حاجتهم للحصول على مشاعر محدّدة، فيمارسون الابتزاز العاطفي عن غير دراية. وهو ما تشير إليه عالمة الإنثربولوجيا الثقافية، مارغريت ميد، بقولها: بعض الأشخاص يستغلون المخاطر الاجتماعية للحصول على التعاطف! وفي المقابل، يفسّر سيغموند فرويد تعلّق الإنسان ببيته، على أنه مصدر للأنا والأمان والاستقرار، الأمر الذي يجعل رفضه التخلّي عنه صعبًا.

أسباب كثيرة تبادرت إلى ذهني في انتظار قبول أهلي بالرحيل عن تلك البؤرة الخطيرة، وكنت متردّدة في دعوتهم إلى منزلي، لأني أتشاركه مع فتاة محجبة لن تكون مرتاحة في وجود رجل غريب، أي أبي، ولا ربما في وجود أكثر من شخصَين، أي أنا وهي. خفت أن تترك البيت، كوني عاجزة عن سداد جميع الفواتير بمفردي. لكنها الحرب! فدعَوت عائلتي فعلاً إلى بيتي، ووعدتهم بإقامة مرحّب بها ومريحة، لكني حين فشلت في إقناعهم، استخدمت أسلوبهم نفسه، وقرّرت أن أُثير خوفهم على حياتي.

في اليوم الذي سبق القصف العنيف على الضاحية الجنوبية، ثم اغتيال قادة حزب الله من "قوة الرضوان" في منطقة الجاموس – الضاحية، القريبة من مكان سكن أهلي، أذكر أني لم أعد قادرة على عدّ دقّات قلبي، كنت أرتجف من شدة الحزن والغضب. تردّدت قليلًا قبل الذهاب إلى موقع التفجير، ثم ارتديت ملابسي بسرعة البرق باحثة في الوقت عينه عن تاكسي يقبل باصطحابي إلى منطقة تلقّت غارة للتو! وبالفعل، وصلت أخيراً، بعد دقائق معدودات من الحدث، التقطت صوراً ومقاطع فيديو وأرسلتها إلى المنصّة حيث أعمل كمراسلة، ثم توجّهت إلى منزل أبي وأخبرته أني سأفعلها ثانية وآتي إليه فور الإعلان عن أي تفجير لاحق، وهو ما سيعرّضني للخطر! ورحلت.

في اليوم التالي اهتزّ لبنان بما ومَن فيه، بسبب رشقات صاروخية متتالية ومتسارعة عصفت بالضاحية الجنوبيّة، وصل صداها إلى المناطق الآمنة في بيروت والمحافظات. أما الخبر فسقط كزلزال فاقت قوته صراخ الغارات.. لقد اغتيل حسن نصرالله! اغتالته إسرائيل مع مجموعة من قيادات الحزب، بثمانين طن من الصواريخ المتفجّرة الخارقة للتحصينات، فغطّت الضاحية سُحب دخانية لم تخنق ساكنيها بقدر ما فعله خبر وفاة قائدهم الذي اعتادوا الهتاف له وفداءه بدمائهم!

حينها استشعر أبي وأخي مع زوجتيهما الخطر الحقيقي، اتصلت بهم مؤكدة أني أتجهّز للتوجّه نحو الضاحية إن لم يخرجوا على الفور، فخرجوا جميعًا إلا أبي الذي ظلّ يعيد حسابات تتعلّق بخوفه من رحيل شريكتي في السكن، وبإمكانية تعرّضه لما ينتهك كرامته حين يحتاج إلى الناس بسبب نزوحه. إذ أن الجهات المعنيّة لم تطرح أيّ خطة للطوارئ ولإيواء النازحين، ما أثار قلق سكّان المناطق المعرّضة للخطر من التوجّه نحو المجهول.

لم أنم تلك الليلة، كان النعاس يحرق جفني، وخوفي يحيطهما بالدموع. انتظر أبي! إنه ذخيرتي التي خرجت بها بعد 33 عاماً من ولادتي، بعدما أنشأت علاقات بأشكال كثيرة مع أصناف متعددة من الناس، وخضّت تجارب أهدتني دائرة صغيرة جداً من العلاقات الصادقة، وهو على رأسها، ليس لأنه أبي فأنا لا أعير اهتمامًا للمسمّيات الاجتماعيّة، بل لأنه استحق ذلك لأسباب يطول الحديث عنها.

ليلة أسطوريّة امتدت دقائقها سنوات، انتظر قدوم الفجر لاستقباله بعدما أقنعته كمية الغارات التي تساقطت حول منزله. وأخيراً، قرع جرس منزلي ودخل بصحبة زوجته، ولم ألحق استشعار الاطمئنان حتى قرر العودة إلى الضاحية من جديد، بهدف جلب المزيد من الحاجيات. فعلها ثلاث مرات متتالية، كادت تصيبني بانهيار عصبي! لكنه رسا أخيراً، وقدّر حجم تأثير الأمر على تماسكي وتوقّف عن تعريض نفسه للخطر.

قد أبدو غريبة بعض الشيء إن قلت إنني، وبعد ملامسة الشعور بالأمان والإستقرار والإطمئنان، اجتاحني شعور مناقض تمامًا! فأنا لم اعتد على وجود أي كائن في غرفتي منذ قرابة الخمس سنوات، بل إني بتّ أجد صعوبة بالغة في الاختلاط مع الناس لساعات طويلة، سوى لدوافع مُلحّة كالعمل. اعتدت نمط حياة مختلف عن نمط حياتهم، لناحية ساعتَي النوم والاستيقاظ، ومسار اليوم وتفاصيله. اعتدت السكون والصمت لساعات طويلة جداً، أنجز خلالها مهامي المهنيّة والمنزليّة وغيرها من المهام الحياتيّة، ولا أستثني منها خلوة أقضيها مع ذاتي، تمنحني طاقة كبيرة، تظهر في إنتاجيةٍ تمنحني بدورها شيئاً من السعادة.

تبدّل كل شيء على نحو مفاجئ وبتّ خائفة، خائفة من عدم قدرتي على تحمّل القلق وساعات النوم القليلة غير العميقة، وعلى تحمّل الحرب مع ما تصطحبه من أعباء اجتماعية واقتصادية وأمنية، إضافة إلى الضغوط المتزايدة في عملي كصحافية. بتّ خائفة من الحزن وظُلمته، موت الناس وجراحهم وتهجيرهم وما يعانونه من صعوبات في أماكن النزوح... إن وُجدت.

إنه الحزن بمنشاره الحاد وعلاقاته السامّة بين اللبنانيين، يسوقني إلى مشاهدة مقاطع فيديو تُظهر حجم الدمار في الضاحية. أسى يطوّق حنجرتي، وعجزٌ ثقيل يحاكي شعور الفقدان في داخلي. شوارع وزواريب وزوايا تم محوها بالكامل، لم يبقَ منها سوى ركام وبضعة أجساد بلا نبض.

مناطق تنقّلتْ بينها منازلُ عائلتي المستأجَرة، اختفت معالمها وتفاصيلها الجميلة بحلوها ومرّها، بكل ما تحمله من أفراح وأحزان وخذلان وصداقات وعلاقات حب ومشاعر لا تنتهي، توثّق لي مشاعر الطفولة والمراهقة والشباب. ولدت وكبرت وترعرت في هذه الشوارع، وحدث يوماً أن أنشأت فوجاً كشفيّاً في منطقة الرويس، ترى ماذا كان مصير عناصري؟

أمّا أنا فتمترست إلى جانبي زملائي على مشارف الضاحية، أراقب الغارات وأنقلها على الهواء مباشرة بصوت مجرّد من المشاعر. أشاهد بأُمّ العين تلك الأحياء التي كبرتُ بين زواياها تُباد بالكامل، وتُمحى معها ذكريات ومشاعر لا تُشترى. فمعالم الأماكن ليست مجرّد حجارة وأسماء، بل هي تاريخ عاطفي تغتاله إسرائيل في أعماقنا، بهمجيّة قارصة!

أنظر إلى الضاحية وأكرّر الخبر متوجّهة إلى المشاهدين: إنها غارة جديدة تستهدف منطقة "كذا" ويبدو أنها قويّة جداً، ولا ندري حجم الضرر الذي تسببت به. أمّا في نفسي، فأكرّر خبراً آخر: يعزّ عليّ أن أرى الضاحية بهذا الدمار، يعزّ عليّ أن أراها مكتسية كلّ هذا الخراب!

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها