الخميس 2023/06/01

آخر تحديث: 16:24 (بيروت)

لمَن نكتب.. ولماذا؟

الخميس 2023/06/01
لمَن نكتب.. ولماذا؟
"ثلاث نساء" للفرنسي فيرناند ليجيه (1921)
increase حجم الخط decrease
أكتبي أكتبي، انّها الوسيلة القادرة على التّواصل مع الغير.
أكتبي فالكتابة تساعدك للتّعبير عمّا في داخلك، والتّشارك مع من يقرأون، حتى لو نقص عددهم وما زال يتناقص.
أكتبي بحروف حلّت مكان الإشارات ورسم الأشكال التّي، حتّى الآن، يحاول أصحاب الاختصاص فكّ رموزها، علّها تجعلهم يكوّنون فكرة واضحة عن طريقة عيش مع من كانوا يتبادلونها معهم في الزّمن الغابر.
أنا أحبكم ونحن معاً، نعيش في عالم واحد وعلى أرض واحدة تجمعنا، لنتشارك عبر اللغة مفاهيمنا الإنسانية الغائبة والمفكّكة والمتنوّعة بين أعراق وحضارات وأجناس.

حسناً، سأكتب ما يخطر في بالي، ولا خسارة في تجربة التّعبير عمّا أحسّ به من مشاعر، سلبيّة كانت أم إيجابيّة، وما يراودني من أفكار، صائبة كانت أم خاطئة، ومشاركتها مع مَن يقرأ...

تناولت قلم رصاص.. كم أكره هذه الكلمة: رصاص. أظن أن كرهي لها بدأ منذ ولدت ونشأت وعشت في هذا الكون الواسع المفترض أن أتشاركه معكم بكلّ احترام لحقوقي وحقوكم، لواجباتي وواجباتكم.

استبدلته بقلم آخر ذي لون أزرق، علّ هذا البديل يساعدني على طرد تلك الكلمة من عقلي، أقلّه وأنا أكتب، ومحو كلّ ما يتعلّق بحقلها المعجمي: لا حروب ولا خراب، لا مصائب لا محن، عفواً من لطفي بوشناق الذي شاركته البكاء عندما سمعته ورأيته يؤدي تلك الأغنية بكلّ أحاسيس ومشاعر الشّعب العربي، ولم أستطع التّصفيق: الّدمع والتّصفيق لغة إشارة، أليس كذلك؟

عودي.. أكتبي باللغة التي تعلّمتها. إجمعي حروفها وشَكلّي منها كلمات دالّة على فرحتك وأنت تشمّين عطر زهورك، وتتفقّدين نموّ شتلات غرستِها برفق وحنان. هل شعرتم بالفرح معي؟ الشّم والغرس، لغة إشارة، أما الرّفق والحنان فكيف نعبّر بالإشارة عنهما؟

رحم الله لغة الإشارة التّي لم ولن تستطيع التّعبير عن مدى اشمئزازي ممّا ينتظرني من أعمال منزلية روتينية، بدأت آثارها تظهر في ألم ظَهر وألم ساقين أحياناً، وبكلمات بذيئة أحياناً أخرى، أطلقها بصوت عال لتصل إلى كلّ من عمل وساهم وشارك عن قصد في عدم قدرتي المادية على تأمين من تقوم بهذه الأعمال لقاء أجر. عدّدوا معي كلمات لا يستلطفها ولا يستسيغها سمعكم وعقلكم، وما أكثرها! يا ترى كيف كان التّعبير عنها في زمن الإشارات؟! وكيف كانوا يرسمون شكل الألم؟

عزيزتي، وأنت تقرأين، هل فكرت بأنّه يجب عليك تنظيف الكنبة التّي تجلسين عليها حتّى لا تعاودي، إذا لمستِها، غسل يديك بالماء والصّابون، وقد غسلتهما في سنوات الكورونا أكثر ممّا فعلتِ طيلة حياتك؟ هل كان مسح الغبار وارداً في برنامج الحياة اليومية في ذلك الزّمن البعيد الذي لا نستطيع تقديره بالسنوات؟

وأنتِ تقرئين، اقتحمت عقلك فكرة تفقّد ما في داخل البرّاد من أكل لم يعد أحد يرغب في تناوله. تلك الخضار والفاكهة التّي اشتريتها بعدما تأكدتِ أنّها مرويّة بمياه خالية من الجراثيم، وغسلتِها مرّات ومرات، مع إضافة الخلّ، اتقاءً للكوليرا.. هل نقص عدد المصابين بهذا المرض المُعدي؟ وكيف كانت تحفظ المأكولات حينها؟

وأنتِ تقرئين، تنظرين إلى ساعة يدك، تُعلمك بموعد المسلسل الرّومانسي الذي انتهت حلقته السّابقة عندما اعتذر البطل من حبيبته بسبب صوته المرتفع، حين كانا يتجادلان في أمر يخص عائلته. هل ستقبل اعتذاره؟ ربما يتبادلون العناق؟ التلفزيون اختراع جديد جداً على لغة الإشارة.

وأنتِ تقرئين، لم تفارقك فكرة تحضير درس عن المثنّى في اللغة العربية، ووسائل الإيضاح الممكن استخدامها لتصل بسهولة وسلاسة لأكبر عدد من الطلاب الذين لا يكفون عن إسماعك أنّهم يصادفون صعوبة كبيرة في اتقان لغتهم الأم (حتى أولياء أمورهم يعبّرون بصراحة عن هذه الصّعوبة، ويسألون إن كان ضرورياً لأبنائهم إتقان لغة من الجائز عدم استخدامها في مستقبلهم الذي يطمحون الى تحقيقه في بلاد بعيدة من وطنهم ولا يتكلم شعبها العربيّة). مراراً وتكراراً، تعود إلى عقلك لغة الإشارة، ورسم الأشكال للتّفاهم مع الغير..

عزيزي، وأنتَ تقرأ هذه الكلمات، هل تفكر في اقتراب موعد اصطحاب ابنك من المدرسة، وأن عليك الخروج قبل نهاية الدّوام بساعة، في أقل تقدير؟ تريد أن تركن سيارتك في مكان لا إزعاج فيه لمن يشاركك عجزه عن توفير بدل النقل لباص المدرسة الذي أصبح وأضحى وأمسى يوازي قسط التّعليم في مدرسة اخترتها أنت وزوجتك، ولا داعي لتعداد أهميتها التّربوية والأخلاقية. وسائل النقل في زمن الإشارات ورسم الأشكال للتّعبير والتّفاهم، كانت الأرجُل، أليس كذلك؟

وأنتَ تقرأ، تذكرتَ أنّ عليك واجب تقديم العزاء لأحد المقرّبين إثر وفاة والده الذي رحل بعد معاناة مع مرض، اختفى أو أُخفي من الصيدليات الدّواء الخاصّ به، وعجز عن تأمينه. تذكّروا من فارقونا وترحّموا عليهم، بلغة الإشارة أيضاً، ومواساتهم عبِّروا عنها بالطريقة نفسها، فلا كلمات تحمل ما في أعماقنا من أسى وحزن على من سبقَنا مُفضّلاً الرحيل في زمننا هذا.

وأنتَ تقرأ، تقول أنّه لا بد لك من الاطلاع على آخر الأخبار المتعلّقة بالحُكم على دونالد ترامب إزاء التّهم الموجّهة إليه، فأنتَ مُتابع لكلّ ما له علاقة بالولايات المتحدّة الأميركيّة، مع أنك تعيش في قارة تبعد آلاف الأميال عن القارة حيث ولد الرئيس السابق ونال، تلقائياً، الحقّ في الترشّح للرّئاسة والفوز بها. إنّه الحظ الذي يأتينا، ولا لغة إشارة تعبّر عنه.

وأنتَ تقرأ اليوم، يصادف عيد ميلاد أمك الغالية على قلبك، أحنّ مخلوق في الكون. كيف ستعبّر عن مقدار محبتك وتقديرك واحترامك، لمن عملت على تيسير وتسهيل كل ما يصادفك من صعوبات الحياة اليومية، وما أكثرها، بابتسامة عريضة ونظرة دافئة تعيد اليك طاقة كدت تفقدها؟ ستعثر في السّوق، بلا شك، على هدية رمزية تليق بهذه المناسبة. ترى هل كان البشر في زمن لغة الإشارة ورسم الاشكال، يحتفلون بمناسبات كهذه، أو يدركون عدد سنين عمرهم؟

عزيزي عزيزتي.. لم أكتب شيئاً جديداً، صح؟ ربما في مرّات مقبلة، أعيد المحاولة في جمع حروف وتشكيل كلمات، رغبة مني في تحقيق مجال لا بأس به من التّفاهم والتّشارك والتّواصل وتبادل الأفكار.
ألف ألف شكر لمن رسم أشكال وإشارات التّعبير حروفاً، وجمعها كلمات... 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب