السبت 2023/05/06

آخر تحديث: 00:19 (بيروت)

... وَلَم أُصبح "أُمّ إسراء"

السبت 2023/05/06
... وَلَم أُصبح "أُمّ إسراء"
"المضي قدُماً يوماً بعد يوم" للفنان المصري خالد حافظ
increase حجم الخط decrease
قبل أسابيع، طلبتُ من جارتي أن تدلّني على سيدة تساعدني في التنظيف، وبعد ساعات وجدتُ سيدة وقورة أمام الباب ترتدي عباءة سوداء وحجاباً رمادياً ومعها طفلة محجبة. للوهلة الأولى، ظننتُ أن السيدة أخطأت البيت، إلا أن جارتي عرفتها إليّ: "دي أم إسراء اللي هتنضف معاكي البيت".

بعد دقائق، كانت السيدة وطفلتها قد بدلتا ملابسهما وشرعتا في تنظيف البيت معي. كانت ملامح الشقاء بادية على وجهها، لاطفتُها ومزحت معها لبعض الوقت للترويح عنها، وقلت لها إن ملامحها توحي أنها في عمر صغير، لتبادرني بالعام الذي ولدت فيه وعلى وجهها ابتسامة ظفر كأنها تؤكد مقولتي. ارتبكت للحظة وأنا أخبرها أني ولدت في هذا العام أيضاً، وأننا من البلدة نفسها. عدنا إلى الوراء قليلاً لأتأكد: هل درسنا أيضاً في المدرسة نفسها؟ لكن "أم إسراء" لم تكمل تعليمها: "أهلي خرجوني من المدرسة وأنا كنت شاطرة، بس جوزوني وأنا معايا دلوقتي 4 عيال ما شاء الله"، وظلت تبسمل وتحوقل وأنا أسرد لها حكايتي وكيف تخرجت من كلية الهندسة بجامعة القاهرة، واتخذت طريقاً آخر بعد سنوات من التخرج، هو الكتابة والصحافة... وما زلت عزباء.

ورغم أن "أم إسراء" أنجبت 4 أطفال مع حالتها المادية الصعبة جداً، وزوجها الذي يعمل سائقاً لسيارة لا يملكها فيعمل يوماً وعَشرة لا، فقد راحت تقنعني بالزواج وتكوين أسرة وأطفال، وأنا أقنعها بضرورة تحقيق الذات. كنا كالشرق والغرب، في استحالة أن نلتقي على رأي.

هذا الموقف جعلني أقف دقيقة أمام التحولات التي كان من الممكن أن تغير مصير حياتَينا، فقط لو أنها هي تمردت على عائلتها، ولو انصعتُ أنا لعائلتي.

كان والداي مُصرَّين على تعليمنا في صغرنا، رغم كونهما موظفَين حكوميَين من الطبقة المتوسطة. أغلب ما أتذكره من طفولتي هو الدراسة ليل نهار، صباحاً في المدرسة، ومساءً مع والدي الذي كان يجمعني وأشقائي حول "الطبلية" يراجع موادنا. وأتذكر أني لم أحظ بإجازة صيفية ألعب خلالها كباقي الأطفال، فبعد شهر من بدايتها، تبدأ الدروس الخصوصية لتنغص عيشنا، ونبدأ البحث عن كتب العام المقبل من أقارب وجيران سبقونا بعام أو أعوام.

كثيراً ما تذمرتُ من ذلك الروتين، وكثيراً ما سمعت مقارنات بيننا كأشقاء أربع. بالطبع كانت شقيقتي الكبرى هي المثالية. فكانت الأولى على المدرسة/الإدارة التعليمية/المحافظة، وتسمع كلام الوالدَين وتنفذه، بينما أنا وأشقائي الذكور الأصغر متمردون ولسنا بالمستوى نفسه، لكننا في النهاية تخرجنا جميعاً من الطب والهندسة.

ومنذ الثانوية العامة، قررت اتخاذ مسار دراسي مختلف عن شقيقتي الكبرى التي اختارت الطب، فاخترتُ أنا الهندسة، وكان لذلك الاختيار ثمناً لأني كنت الأولى في عائلتي التي تُذاكر مواد رياضية للالتحاق بالهندسة، فلم يكن لي مرجع يكبرني أعود إليه. ثم حينما بدأت الدراسة الجامعية، لم يكن قد سبقني أحد من عائلتي أو أقاربي في دخول الكليّة. وعلى أبواب التخرّج، واجهتُ العائلة بأني أريد إكمال إقامتي في القاهرة. رفضوا في البداية، ثم وافقوا على مضض، لكني لم أحظ بالاهتمام الذي كنت أحظى به فيما أقيم مع أسرتي، إذ لم تشغل بالي أثناء إقامتي معهم أمور مثل الإيجار والطعام والفواتير، لكني غرقت في تلك المسؤوليات بمفردي، في القاهرة التي ما إن وطأتها حتى نُزع عني كل غطاء عائلي.

أذكر أني تشاجرت كثيراً مع أمي وشقيقي الأصغر اللذين حاولا إعادتي إلى بيت العائلة، مع محاولات ترغيب كثيرة، منها إعداد أكلاتي المفضلة، وطلاء غرفتي "على مزاجي" وغيرها. لكن رغبتي في الفكاك من العنف النفسي الذي كنت أتلقاه، كانت دافعي الأقوى، لذلك لم أخبرهم بأي من خطواتي إلا بعد تنفيذها.

لا أتصور لو أني، في كل المرات التي تم الضغط عليّ فيها من أسرتي، وفعلت ما طلبوا ولم أفعل ما نهوني عنه... أي شكل كانت حياتي لتتخذ؟ لو أني بقيت معهم بعد تخرجي، وعملت في بلدتنا أو أي وظيفة اختاروها، حتى لو لم تكن تناسب طموحي آنذاك، ولو أني وافقتُ على أول عريس جاء به عمّي وأطلعني على "شروطه" (أن أقيم في البناية نفسها مع عائلته في بلدة أخرى ويزورَني ليوم واحد أسبوعياً).. لو أني انصعتُ لضغوطهم حينما قررت تغيير مهنتي إلى الصحافة وظللت على حالي في مهنة الهندسة من دون أن أحقق فيها أي تقدم... كيف كانت حياتي لتكون؟

لا أقول أني خارقة الآن، لكني على الأقل راضية عن قراراتي في مسيرتي وحياتي المهنية والشخصية، وأتحمل كل تبعاتها.

تُفاجئني "أم إسراء" حين أعطيها أَجرَها قائلة: "إحنا إخوات عادي"، وأنا في سرّي وددتُ لو قلت لها: "لا لسنا إخوات... نحن حياتَين لم ولن تتقاطعا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها