الجمعة 2023/05/05

آخر تحديث: 00:07 (بيروت)

خيانة سيدة المدن!

الجمعة 2023/05/05
خيانة سيدة المدن!
لوحة للفنان اللبناني حسن جوني
increase حجم الخط decrease
تتسمر أناملي أمام الصفحة البيضاء، ترتجف خوفاً من نقل ما يتملك عقلي من أفكار ويجتاح قلبي من مشاعر.

أكتب وأمحو، خائفة من أن يدوي صوت أفكاري عالياً فأخون البلد الذي عشت أنثر حبي له، رافضة اعتباره شقة مفروشة يمكنني هجرها لمجرد أن خللاً أصاب أساساتها.

كيف لي أن أكتب عن بيروت اليوم؟ كيف أراها وكيف أحياها؟! هي مدينتي التي كانت تضج بالحياة، باتت ملقاة على ناصية الوحشة. فقدَت بيروت بريقها منذ حين، عصفت بها الأزمة الاقتصادية قبل أن يمزقها انفجار 4 آب، ويتركها أشلاء بلا روح. ترميم الأبنية وإعادة تركيب الزجاج لم يعد إصلاح ما دُمّر، شذرات الزجاج المحطم ما زالت عالقة في الأذهان أكثر من صور المباني المتألقة.

أكتب وأمحو، في محاولة للسيطرة على ما يعصف بي من مشاعر سلبية تجاه وطن ناضلتُ للبقاء على أرضه وللعودة إلى كنفه قبل سنوات. لا أريد لكلماتي أن تنقل ما بات يتردد في رأسي وينسحب على لساني بصوت أقرب إلى الصراخ، حتى يشعر من يكلمني أني أخوض شجار ما.

كانت لبيروت رائحة الحرية والتألق، قبل أن تجتاحها رائحة الموت والفقر.

الحيرة بين مونو والجميزة والاشرفية وداون تاون وشارع الحمرا، لم تعد معضلة، فقد بات رواد الملاهي الليلية والمطاعم أقل شغفاً بالحياة، والشوارع التي تضج بالصخب انتابتها لمحة مستجدة، غريبة عن أسطورة طائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد غير آبه بما ألمّ به. ليل بيروت الصاخب في انستغرام، لا امتداد له في الحياة اليومية، لم تعُد للسهر مفاعيل ترددية. هذا الأدرينالين ينتهي بانتهاء السهرة قبل العودة إلى المطحنة الحياتية ودوامة هدر العُمر المتبقي على ملاحقة بديهيات الحياة. حياة بيروت المرفهة محصورة في مبانٍ فاخرة تقطنها طبقة تشكل نسبة ضيئلة من الشعب، في حين أن الغالبية الساحقة تنزلق إلى الطبقات الفقيرة والمعدمة.

هذه بيروت الكبرى التي تغيب عن شوارعها الإضاءة ليلاً، لتشعر وكأنك تدور في مدينة أشباح. مقاهيها ومطاعمها الفاخرة تنحسر في داخل تلك الأماكن ولا تنقل أياً من رونقها إلى الخارج. لم تعد بيروت تلك المدينة التي لا تنام، ولم يعد رونقها إكسير حياة، بل باتت مجبولة بمظاهر سلبية تتسلل إلى ثنايا الشوارع.

تغيب إشارات السير بغياب الغائب الأكبر، الكهرباء. هذا الاختراع الذي يشكل أقصى طموحات اللبناني، فينفق نهاره في انتظار الكهرباء وفي احتساب فواتيرها وفواتير المولدات البديلة. غياب إشارات السير يحول الشوارع والتقاطعات إلى صورة مصغرة عن البلد حيث لا مكان للتفاهم، لا على أحقية المرور ولا حتى على تسهيل الأمور، فتعبق بما يشبه لعبة السيارات في مدينة الملاهي. ازدحام لا سبيل لاجتيازه إلاّ الشطارة مرفقة بسيل من الشتائم في غياب حتى شرطي السير الذي بات راتبه الشهري لا يكفيه قوت يومه.

في زحمة السير الخانقة، وجوه مكفهرة ومتعبة، عيون شاخصة بنظرات فارغة تنتظر اللاشيء. أعداد مضطردة من المتسولين، والباعة المتجولين، من أعمار مختلفة وأجناس مختلفة وحتى عاهات مختلفة. معرض تسول متنقل، يختلف مظهره الخارجي وطلبات أبطاله باختلاف الشارع والمنطقة ومستواها الاجتماعي والاقتصادي.

محال تجارية متراصة تعتمد على ضوء النهار لتفتح أبوابها، في داخلها بضاعة لا تليق ببيروت أو أهلها. متى أصبحنا بهذا المستوى من انعدام الذوق في قِبلة الموضة ومصدِّرة مصممي الأزياء إلى العالمية؟ مستوى الخدمة إلى تراجع مخيف في بلد يعتاش من السياحة. أسعار بأصفار متعددة يصعب على الموظف العادي تحملها. في محلات البقالة، نساء قليلات يتسوقن الضروري، ويشترين الفاكهة والخضار بالحبّة، فتلَف الطعام بات مكلفاً!

إعلانات يعود تاريخها إلى سهرات رأس السنة، لا تتبدل، عاكسة الشلل الذي يصيب الجو العام، والحركة الحقيقية في بلد يعيش بشكل صُوري، على بعض من الأمجاد وقلة قليلة ممّن ما زالوا يتقنون فن الحياة والتعالي على التفاصيل. وحدها اللوحات المخصصة لقاسم سليماني في ضاحية المدينة الجنوبية، تتجدد وتتبدل بشكل شبه أسبوعي، في محاولة لتعداد مآثر الرجل، وكي لا يمل المار من طريق المطار المشهد نفسه، فتبث ألوانها على مفترق طرق عابق بزحمة السير وبالوجوه المتكدرة من هموم الحياة، وتراقب من علٍ المستولين يغبّون عباب الجسر، والفقراء يتدفقون من الأماكن المجاورة ليلوذوا بتلة خضراء شذّت عن العمار المتراص في المخيم المجاور والرمل العالي.

التوك توك والدراجات النارية التي تحمل عائلات بكاملها، تزاحم السيارات والباصات في الشوارع. السيارات الفارهة حكر على بعض المناطق والأماكن المحددة جداً، ويتسلل مشهد السيارات المتعبة والقديمة إلى الشوارع مع ارتفاع أسعار السيارات وصيانتها. وفي غياب الرقابة على الميكانيك، بات مشهد السيارات المعطلة شبه عادي، من دون أن ننسى تلك الغارقة في حفرة هنا أو بركة مياه هناك.

شوارع بيروت تفتقد بريقها، حتى في أوج زحمتها. شحوب يتسلل من شوارعها، وكأن مرضاً عضالاً أصابها، سحب منها الروح إلى اللاعودة.

خيانة هي؟ أن أصف بيروت بما باتت تولّده من انعدام أفق؟ أم نقل للحقيقة ومحاولة بوح أخفف به وطأة الإحباط خوفاً من انهيار نفسي حتمي، أحارب معالمه بما أوتيت من قوة؟

كيف لي أن أكتب عن مدينة سُحبت روحها؟ وأي مدينة؟ مدينتي، بيروت التي لم يحصل أني تعاملتُ معها على أنها مدينة، بل سيدة المدن العابقة بالحياة... المدينة التي باتت تشبه كل شيء إلاّ المدن... خيانة هي أم عتب؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها