الجمعة 2023/05/26

آخر تحديث: 18:45 (بيروت)

نون الجنون

الجمعة 2023/05/26
نون الجنون
أيعقل أن ما عانته مي زيادة ما زال غامضاً وحكاية منقوصة؟
increase حجم الخط decrease
في حلقة عرضت مؤخراً من برنامج "صار الوقت"، وتعليقاً على نشاط سيدة لبنانية في "تويتر تقول إنها تفضح قضايا فساد في الطائفة الدرزية والمصارف، علّق الإعلامي مرسال غانم بأنها "مريضة نفسية ومسعورة". هكذا يُستخدم مصطلح المرض النفسي أو الجنون حينما يُراد شتم نساء حاضرات في الحيز العام ومجالات التعبير السياسي، بمعزل عن أدائهن الذي يُنسى تقييمه أو حتى دحضه بدلاً من الذهاب إلى شعوذات الوصمة النفسية.

كما إنشغل رواد مواقع التواصل بمتابعة "الإنفلونسر" لمى الأصيل، التي ظهرت في فيديو "إنستغرام" بحالة إنهيار عصبي، جراء إكتشاف خيانة زوجها لها، لتتلقى مئات الرسائل المستهزئة وتصف حالتها "بالجنون". وثمة من اعتبر أنّ كشف تفاصيل حياتها في الشبكات الاجتماعية هو ما وصل بها إلى الخيانة والإضطراب.

"مسعورات، مضطربات، مجنونات، وهرموناتهن عم تلعب"... هذا غيض من فيض مما تُلاحق به نساء حين يقمن بخلاف ما هو "متوقع" منهن، بصرف النظر عما إذا كانت أفعالهن جدلية أم لا، مقبولة بالمعيار المنطقي أو القانوني أو الأخلاقي، أم لا... فالأزمات النفسية، في حال وُجدت، ما زالت تُعتبر "تهمة"، صفة تحقيرية، أو عيباً يُفترض أن يُخجِل مَن تُرمى به.

و"نون النسوة" الموسومة بالأمراض النفسية، لها تاريخ حافل في المشرق العربي، من كاتبات وصحافيات وممثلات، وناشطات، وغيرهن. فكيف لقصة معروفة جداً، بل تُعدّ فضيحة في زمانها، وتدخّل فيها ملوك وساسة ومثقفون، أن تظل غامضة، ومهما حقّق باحثون في أرشيفها، ما زالت تبدو ناقصة وخلفها ما لم يُكتشف بعد؟ والكلام هنا عن قصة الجنون المزعومة للكاتبة والناقدة النسوية اللبنانية مي زيادة.

ومنها إلى الممثلة اللبنانية السورية، دارينا الجندي، التي كانت مي زيادة مُلهمتها، من تجربتها المُعاشة في "العصفورية أو مستشفى المجانين". وإن كانت لكل منهما حقبة زمنية، إلا أن التجربة نفسها رافقت حياتهما، فبعد النجاح الأدبي والشهرة في التمثيل، ودورهما في إحداث ثورة نسوية في محيطهما العائلي والإجتماعي، قرر مقرّبون وضعهما في المصح العقلي، كل منهما في زمن، وكل منهما لأسباب ومطامع مختلفة، أحدها الانقضاض على الميراث والمال. فالمرارة نفسها ذاقتها كل من دراينا ومي، بعدما حُجر عليهما وتخلى عنهما الأصدقاء، لتبقى كل منهما، في عصرها، حبيسة وحدتها وألمها. قررت دارينا نقل الحكاية للفضاء الأوسع، فكتبت "سجينة المشرق" عن مي، ضمّنتها حكايتها هي أيضاً. امرأتان، كل منهما مرآة للأخرى. وقالت دراينا في حوارات صحافية أن روايتها كانت "نوعاً من العلاج، كنت أحتاج إلى معرفة أنّ ثمة شخصاً آخر مرّ بما عشته".

تتوسع تهم الجنون، لنساء بسبب شكلهن أيضاً ومواصفات "جمالية". وهذه إساءة لمفهوم المرض النفسي أو العقلي، كما للأشخاص. هكذا تعرضت القاضية اللبنانية، غادة عون، لحملة عند ظهورها في فورة غضب بعدما قرر القضاء اللبناني إيقافها عن العمل. غادة عون ليست ملاكاً، هي فاعلة في دينامية قضائية وأمنية وسياسية، لها انحيازاتها وأخطاؤها الفاقعة، وهذا كله يُناقش. بل إن حرية التعبير تكفل لمنتقديها تفنيد سقطاتها الكثيرة كقاضية ومحسوبة على تيار سياسي. لكن الضرب في منطقة "امرأة+وظيفة عامة+معيار جمالي معين+طباع حادة+سن متقدمة=جنون"، فمُقلقة هذه النظرة الدونية للاضطراب وللنساء معاً. 

"نون الجنون" بإمكانها أن تكون سيفاً مسلطاً على نساء أخريات، ناشطات أو صحافيات أو حتى أمهات وربات بيوت، يعبّرن عن أنفسهن بلا قيود، أو بعد محاولة كسر القيود. "نون الجنون" حرف زائد في الكلام والتفكير، وربما حرف الحرب بين نساء وأقدارهن. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها