الجمعة 2023/05/19

آخر تحديث: 19:04 (بيروت)

عندما يفارقك رفيق الروح حيّاً

الجمعة 2023/05/19
عندما يفارقك رفيق الروح حيّاً
اللوحة للفنان المصري عمر عبد الظاهر
increase حجم الخط decrease
"إيناس أنا في لبنان من يومين"، هكذا أرسلها لي صديقي "أ" قبل أيام، تلك الرسالة التي كانت كدلو من الماء المُثلج انسكب فوق رأسي. سألته وأنا أرجو الله أن تكون الإجابة "لا": "هل انتقلت نهائياً؟".. وظلت إجابته معلقة في تنبيهات هاتفي ليومين قبل أن أجرؤ على الرد عليها. بالفعل انتقل صديقي المقرب، هكذا ببساطة ومن دون أن يودعني.

أتردد قبل أن أجيب على رسالته من خلف شلال انهمر من عينيّ، رغم أننا كنا متخاصمين طوال أشهر. لم أشأ الإجابة بما قد يؤذي مشاعره أو يُظهر ضعفي في تلك اللحظة، رغم أني كنت قد كشفت أمامه مراراً انكساراتي وضعفي وعيوبي كاملة، لم أكن ملائكية أبداً.

لكني، كلما فكرتُ أن اسمه لن يظهر ثانية في شاشة هاتفي، وباستمرار، باعتباره الرقم الأكثر تواصلاً معي خلال العام الماضي كما أخبرتني الفاتورة المفصلة. لن نتمشى سوية في شوارع جاردن سيتي، نتلمس هدوء بقايا الأرستقراطية ونوستالجيا المنطقة. لن نتناول مكرونة بالجمبري مرة أخرى، وهو يتأمل الصلصة المتناثرة حول فمي وعلى ملابسي، أو يشاهدني وأنا أقضم الممبار بتلذذ.

لن نجلس معاً على كورنيش الزمالك، ونسير بمحاذاة النيل نحكي حتى الفجر عن أحلامنا وأفكارنا، ونتندر أنه ربما ثمة مَن سبقونا وجلسوا جلستنا نفسها وفكروا في ما نفكر فيه. لن أهاتفه في منتصف الليل، لأحكي له خيباتي في الحب، ولن يهاتفني في الساعات الأولى من الصباح ليحكي لي حلماً راوده أو رسالة من حبيبته.

صديقي "أ" مرهف الحس، هرب قبل أشهر من زحام القاهرة، وتلوثها الخانق وانعدام التوازن فيها، إلى سيناء، ليأنس بالطبيعة، الجبال، البحر، الصحراء، النجوم. اختفى لأيام وأسابيع في رحلة تأمل واكتشاف للذات. ذلك الهروب القصير الذي تلاه مؤخراً هروب كبير إلى لبنان، تلمساً لحرية بأبعاد أكبر كان يسعى إليها في الفترة الأخيرة، حرية لاعتقاداته وأفكاره لم يجد لها في مصر منفذاً ولا داعماً ولا راعياً ولا فرصاً تناسب طموحاته.

في رسالته القصيرة جداً في "التشات"، قال إنه تلقى من بيروت عرضاً لإلقاء محاضرة، وعروضاً أخرى أكثر إغراءً، وأنه سعيد في هذا البلد الجميل. أعلم أنه بلد جميل، لكني عاتبة عليه لأنه غادر بلا وداع. ورغم غضبي، إلا أني في داخلي كنت سعيدة من أجله، بخطوته نحو مستقبل لطالما حلم به وعرف أنه في مصر لن يحققه أبداً.

بيروت، رغم أزماتها العميقة اليوم، بدت لصديقي أرحب وألطف وأكثر مرونة، وله فيها حبّ يريد استكماله، وطبيعة يريد سبر أغوارها. القاهرة تطرد أحبّتي، تغيظني، تستهدفني.

ورسالة "أ" لم تكن الموقف الوحيد. كثر الراحلون من رفقاء الروح، وهم أحياء. أتذكر صديقتي "ش" التي صادقتها ثلاث سنوات، تشاركنا خلالها كل شيء تقريباً: غرفة سكن المغتربات بالسيدة زينب، ومهنة الصحافة، والشغف بالكتابة والأيديولوجيا، والمحافظة التي ولدنا فيها.. قبل أن تيأس من أي تقدم مهني أو سياسي في مصر، وهي التي انتمت إلى حركة سياسية شهيرة يمكن تحققه في مصر. وبعدما تقطعت بها السبل، وازداد التضييق عليها، سافَرَت.

ودّعتني "ش" في أحد الأيام، وكنت في مكتبي في مجلة روز اليوسف، والتقطنا صورة سوية. كانت ستسافر لزمالة قصيرة، ليس أكثر من أشهر، في دولة أوروبية، لم أودعها الوداع اللائق وقتها، على أمل عودتها قريباً. لكنها، بعد فترة، فاجأتني برسالة: "إيناس أنا مش راجعة تاني". ماذا؟ هل هناك مَن يسافر ولا يعود؟ هكذا كانت قد صوّرت لي أفكاري الساذجة. لكن الحقيقة هي، نعم، ولم أرها منذ ثماني سنوات.

في غضون سنوات قليلة، أصبحت صديقتي "ش" في وضع مهني أفضل. أتقنت ثلاث لغات، وباتت تعمل في منظمات حقوقية ذات صيت دولي، ومسؤولة مشاريع، حتى أنها بعد عام أصبحت موظفة في المؤسسة التي ذهبت لنَيل زمالة منها، والعربية الوحيدة في إذاعة أوروبية شهيرة. حققت الكثير بما حلمت به. كنت أعلم أنها لو كانت بقيت في مصر لما حققت رُبعه في عشر سنوات.

لا يمكن لأحد أن يجادل في حب "ش" لوطنها. فهي مناضلة ثورية منذ مراهقتها، لكن طموحها كان أكبر من التضييق الذي كنا نلاقيه، هي التي شاركتني متاعب المهنة: التحرش والعروض الجنسية، محاربة تفشي الوساطة، البحث عن فرص مهنية أفضل نستحقها...

مرت سنوات وأنا أحاول أيضاً السفر والفكاك من مصر. فحُلم الهجرة يراودني منذ العام 2013، عندما علمت أنه لا أمل في البقاء. قاومت مراراً، تمسكت بحسٍّ ثوريّ مراهق، برجاء التغيير، لكني كنت أفشل كل مرة، حتى فقدت الأمل نهائياً.

لكني، منذ ذلك العام، كلما مررت بحادث تحرش أو خطوة مهنية دفعتني إلى الوراء بدلاً من الأمام، تجدد الحلم. أتذكر مقولة صلاح جاهين اليائس في مرحلة ما: "بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء".

البقاء في مصر يعني لجيلي أن تقضي عشرة أعوام لتحقق مستحيلاً ربما يحققه غيرك في عامين خارجها. لذلك لا ألوم كل الطيور المهاجرة، واللائحة لا تنتهي: "س" المعتقلة السياسية السابقة، و"م" اللاجئ السوري سابقاً في مصر، وغيرهما. نحن جميعاً "قاوحنا" بعد 2013 لسنوات، ننتظر التغيير، والحرية التي حلمنا بها، وانتهاء البيروقراطية، ومستقبلاً أفضل دفعنا ثمنه سلفاً. لكن، عاماً بعد عام، كان رفقاء الروح يغادرون وينفضون من حولي، ولا يتبقى سوى صورنا سوية، تلك التي أتحاشى رؤيتها.

حتى الأماكن التي كانت تربطني بهم، لم تعد كما كانت. لم تعد السيدة زينب منطقة ممتعة بروحانياتها الساحرة، ولا تدفق النوستالجيا في جاردن سيتي أو الزمالك. وكلما مررت بأحد أمكنتنا، قلت: "هنا جلست مع صديقي/تي. هنا ضحكنا. هنا حكينا عن فلان/ة. هنا صرخنا بأعلى صوتنا. هنا لعقنا الآيس كريم ولطختنا البيتزا".

كل مُغادر منهم، أخذ جزءاً من روحي معه، وأنا شخص لا تعوضني التكنولوجيا عن غياب الأحباب. أحب رؤيتهم، لمسهم، احتضانهم وقضاء الوقت معهم، كما تقول الشاعرة منى كريم: "أريد أن أضع أحبّتي في جيبي لأقبّلهم كل دقيقة". لكنها أنانية، أن أطلب منهم البقاء، فأنا أيضاً أريد الرحيل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها