الخميس 2023/05/11

آخر تحديث: 16:41 (بيروت)

الضرب على جدول الأعمال الدبلوماسية

الخميس 2023/05/11
الضرب على جدول الأعمال الدبلوماسية
عنف بين الوفدين الروسي والأوكراني في اجتماعات منظمة التعاون الاقتصادي لمنطقة البحر الأسود
increase حجم الخط decrease
لطالما كانت كلمة "دبلوماسي" أبعد ما تكون من أن توحي بالعنف أو الشجار أو الضرب والصفع، ولطالما ارتبطت بسياسة القفازات البيضاء التي ترتكب كل ما تريده بلباقة وحسن سلوك ظاهريين على الأقل، لكن الإشكالات التي تتطور إلى شجار بالضرب واللكم، تبقى حاضرة في حياة السياسين والدبلوماسيين، وإن كانت نادرة، ومن بينها ما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي مؤخراً لمقطع فيديو يقدم فيه دبلوماسي أوكراني على ضرب ولَكْم أحد الدبلوماسيين الروس في تركيا.

فخلال انعقاد الجمعية البرلمانية لمنظمة التعاون الاقتصادي لمنطقة البحر الأسود "بابسيك" في أنقرة، قبل أيام، قام نائب أوكراني برفع علَم بلاده أثناء دخول أحد البرلمانيين الروس الذي انتزع العلم من يد النائب الأوكراني. فما كان من الأخير إلا أن لحق بالنائب الروسي وانهال عليه ضرباً ليتدخل رجال الأمن ويفضوا الاشتباك، علماً أن القمة نفسها شهدت شجاراً آخر بين برلمانيين أوكرانيين ورجال الأمن عندما حاول البرلمانيون الأوكرانيون تنظيم احتجاج برفع الأعلام والصياح قرب مندوبة روسيا أثناء مخاطبتها أعضاء القمة.


هذه الحادثة ليست الأولى في الحياة السياسية الأوكرانية. ولعل أشهر الحوادث السابقة "المعركة" التي شهدها البرلمان الأوكراني في نيسان/أبريل 2010 على خلفية مطالبة المناطق ذات الغالبية الروسية في شرق أوكرانيا بالاعتراف باللغة الروسية كلغة رسمية فيها. وخلال نقاش مشروع القانون الذي تقدمت به كتلة "حزب المناطق" وعارضته الكتلة القومية بقيادة يوليا تيموشينكو، احتدم النقاش وتصاعد التوتر بين الطرفين وبدأ النواب بإطلاق الشتائم، ثم تطور الأمر إلى اشتباك بالأيدي والضرب المتبادل وحتى إطلاق الغاز المسيل للدموع.

نتجَ عن الشجار حينها عدد من الإصابات بين البرلمانيين تراوحت بين الجروح الطفيفة والكدمات وإصابات في الرأس، إضافة إلى إدانات محلية ودولية واسعة أدت إلى استقالة رئيس البرلمان "الرادا". وتكررت مشاهد العنف في البرلمان الأوكراني على خلفية اللغة وحقوق الغالبية الروسية في شرق أوكرانيا وجنوبها مراراً منذ ذلك التاريخ.

كما أن الحادثة ليست الأولى في تركيا. ففي جلسات كانون الثاني/يناير 2017 دبّ عدد من الخلافات بين نواب في البرلمان التركي على خلفية اقتراح تعديلات دستورية تمنح صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية. وتطور بعضها إلى شجارات واسعة بين النواب وفوضى عارمة في قاعة البرلمان. فخلال إحدى تلك الجلسات احتدم النقاش بين النواب الأتراك وتحول إلى تلاسن ثم تراشق بزجاجات المياه الفارغة وما لبث أن اشتبك النواب بالأيدي. استمر الشجار بضع دقائق قبل أن يفضه رجال الأمن.

وأسفر الاشتباك يومها عن عدد من الإصابات بينها كدمات وكسور في الأنف. وفي سلسلة النقاشات ذاتها، حاولت النائبة المعارضة أيلين نازليكا، أن تقيّد نفسها إلى منصة البرلمان احتجاجاً على التعديلات المقترحة التي اعتبرها تقوض الديموقراطية وتركّز السلطة في يد الرئيس، فهاجمتها نائبات من كتلة الحزب الحاكم. وتطور الأمر إلى شجار بين النائبات نُقلت اثنتان منهنّ إثره إلى المستشفى.


(شجار في البرلمان الأوكراني - أ ب)

وربما لا يتفوق أي برلمان في العالم على البرلمان الأردني في حوادث الشجارات البرلمانية، إلى حد تحولها إلى نقاش دائم بين الأردنيين منذ أربعينيات القرن الماضي. ولعل أشهر حادثة أردنية كانت العام 2001، عندما قرر رئيس مجلس النواب عبد الهادي المجالي رفع الحصانة البرلمانية عن نائبين وإحالتهما إلى القضاء إثر مشاجرة جرت بينهما في مبنى المجلس فقَضم أحدهما أذُن الآخر. وفي العام 2013، اقتحم نائب أردني غاضب قبة المجلس ببندقية كلاشينكوف، وأطلق رصاصتين بعد خلاف سابق مع زميل له، وفي العام 1993 اضطر المجلس لاستبدال المنافض الزجاجية بأخرى، بعدما رشق نائب غاضب زميلته النائبة الأبرز في تاريخ المجلس توجان فيصل بعد مشاجرة "حامية".

وردود الأفعال العنيفة ليست غريبة حتى عن دبلوماسيّي العالم الغربي. إحدى أشهر تلك الوقائع إقدام السفير الأميركي في نيبال العام 1971 على لَكْم السفير الفرنسي في وجهه أثناء حفلة استقبال دبلوماسية في كاتماندو. يومها اغتاظ السفير الأميركي ويليام ماكورميك من تصريحات السفير الفرنسي بول كوزي، التي انتقد فيها الحرب الأميركية على فيتنام، فاندفع نحوه ولكمه في وجهه ما أدى إلى سقوط السفير الفرنسي على الأرض وإصابته بكسور في الأنف وكدمات في الوجه.

قاعات الأمم المتحدة أيضاً شهدت حوادث اشتباك مشابهة. ففي العام 1984 دخل السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة، كان كيركباتريك، في نقاش حاد مع سفير نيكاراغوا خلال انعقاد الجمعية العامة إثر اتهامه لنيكاراغوا بدعم المسلحين اليساريين في أميركا الوسطى، فردّ الأخير واصفاً السفير الأميركي بالكاذب. فاندفع كيركباتريك محاولاً ضرب سفير نيكاراغوا، إلا أن رجال الأمن حالوا دون ذلك.

كيركباتريك نفسه، وبعد عام من الحادثة الأولى، لكن في مجلس الأمن الدولي هذه المرة، اشتبك مع السفير السوفياتي لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين، الذي اتهمه أيضاً بنشر الأكاذيب. وإن كان لا يمكن الحكم على مدى كون كيركباتريك كاذباً من عدمه، فإنه كان على الأرجح حاد الطباع على ما يبدو. 

ولم تسلم القطع الفنية من عنف "الديبلوماسيين". ففي حدث استقطب إدانات واسعة العام 2006، حطم السفير الاسرائيلي في السويد بمطرقة لوحة فنية في أحد المعارض، بعدما اعتبر اللوحة التي تصور مركباً مليئاً باللاجئين الفلسطينيين "معادية للسامية".

تظهر هذه الاشتباكات الطبيعة المعقدة والخلافية في كثير من الأحيان للعلاقات الدولية. ففي حين أن الدبلوماسية تفترض اللباقة في التصرف، وتسعى ولو ظاهرياً، للحفاظ على السلام وتعزيز التعاون بين الدول، إلا أنها يمكن أن تكون أيضاً مصدراً للتوتر والصراع. كما تدل على أن القفازات الديبلوماسية البيضاء قد تتحول في أي لحظة إلى قفازات ملاكمة حمراء عندما تجتمع الخلافات السياسية والطباع الحادة للسياسيين. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها