الأحد 2023/04/09

آخر تحديث: 23:04 (بيروت)

عاصي الزند..وإسقاطات صالح العلي

الأحد 2023/04/09
عاصي الزند..وإسقاطات صالح العلي
تيم حسن وفايز قزق في مشهد من "الزند"
increase حجم الخط decrease
من العبارات المأثورة التي لم تحظَ بشعبية عندما قيلت تعليقاً على الحراك السلمي السوري في عذريته الأولى، واعتُبرت تثبيطاً لِهِمَمِ الحالمين بالتغيير، تلك التي تداولها عجائز قبل نحو 12 عاماً. آنذاك تلاقت كلماتهم على التحذير من الأيام القادمة بالقول بنبرة توحي بنبوءة: "والله بكرا الدم ليجري ع الزفت"!.

كان يلمّح هؤلاء إلى عوامل اجتماعية كامنة تمهّد لاقتتال داخلي مُمتدة في عمق التاريخ السوري مَثلت فيها العَسكَرة وترييف المدينة جولات صدّ وردّ.

ومرّت السنون وأتيحت الفرصة لرؤية الجذور المُوَلّدة للعنف ضمن مادة درامية، فبدا وكأن سوريا ترى نفسها في المرآة، بل وتتلمس ندوباً قديمة. هنا لم يفعل مسلسل "عاصي الزند" (يلعب البطولة فيه الممثل تيم حسن) ومشاهد الدم المسفوح على قِباب الطين ووسط المياه شيئاً سوى أنه وضع المرآة أمام الزوايا المغيّبة في ذلك الوجه. 

وبعيداً عن عقد مقارنات مسلسلاتية في ظل تنافس وحملات تسويق تتوسل تقصي الآراء بأي ثمن، فالمقصود في هذا السياق لا يتصل بعمل فقهاء النقد الدرامي والتوثيق التاريخي. 

وليس كشفاً أيضاً التأكيد على أسبقية أعمال شامية وحلبية وبدوية قدّمت جميعها صورة عن سوريا. غير أن المسألة لا تتعلق بالشمولية أو المصداقية وإنما بالتأثير.

بهذا المعنى كان تصويب "عاصي الزند" (بمقاصده الإنتاجية والترفيهية وسواها) على موضوع الإقطاع والفلاحين مناسبةً لتلمُّس ندبة قديمة تجمعت فيها خصائص ومراحل أسست لتحولات وشكّلت هويّات.

لِجِهَةِ الموضوع ليست المرة الأولى من حيث الإطار العام. أما الجديد فهو عدم المواربة وإن كانت التركيبة معروفة: "إقطاعي وفلاح وقائد أو قادة عسكريون يمثلون قوة خارجية أكانوا أجانب أم من أبناء البلد. تقاطعات مصلحيّة وعداوات لا تصنع من أحد رمزاً لخير أو شر مطلق، فالأمر متروك لأخلاق الشخصية ولطموحها، ما يجعل المجال مفتوحاً لتبادل المواقع ولنسبيّة الأحكام". وإذا أضفنا إلى تلك العناصر بُعداً خاصاً، هو "المرابع العَلويّ" فعندها يكتمل المشهد.

يضع ذلك بالطبع إصبعاً على جرح مُعفّر بالغبار عنوانه "المظالم الطبقية وتوظيفاتها التي صاغت سوريا". وإن كنا قد اعتدنا أن تُقّدّم تلك الصراعات حسب الأهواء الإيديولوجية في اتجاه واحد، "ظالم وضحية"، فإن تصويرها كمُتوالية تاريخية أو كتبادل للأدوار هو ما لا يخدُم المشاريع الزبائنية ذات العناوين الوطنية أو الدينية.

تتجاوز المسألة إذاً مجرد حضور لهجة تُنسب للعلويين وتحبسهم في قفص الخصوصية الطائفية، وتثير في مخيلة المشاهد ثنائية "انكسار/ انتقام" نحو تقابُل أوسع يتواجه فيه الباشاوات أهل الرزانة والحسابات الدقيقة مع أهل السَجّية البسيطة والعتابا النيّئة؛ أصحاب اللغة غير المنضبطة بكلماتهم المستلقية خلف اللباقة، وحروفهم المفعمة بعواطف جياشة، وامتنانهم المبالغ به حدّ إيذاء النفس، وشتائمهم الجارحة المقيمة بجوار اشتياقات من قبيل "يا ضوو عين عيني...".

في هذه البيئة حيث يتواجه الجوع والعُري مع التُخمة وفائض اللذة، يُولَدُ أبطالٌ إشكاليون على نمط "عاصي الزند" ممّن يجمعون في شخصهم عوامل الثأر والقهر والعطف والحب والدموية والمقاومة والتفاوض. ليصبح سؤال التحقق التاريخي عندها بلا قيمة سوى إرضاء جمهور تابع لعصبية معينة. فالأهم من سمات الشخص الفردية وتدقيق الوقائع المرتبطة به هو إدراك الحالة دون اختباء وراء انتماءات بقصد التمجيد أو التحقير.

وكنتيجة لما قدّمه المسلسل من نموذج "بطوليّ"، يُمكن فهم ما يعتمل في نفوس المتابعين السوريين أو يطفو في تعليقاتهم من تحليلات ستأخذ بالاعتبار طبيعة الفروقات، ومع ذلك ستصل في إحدى إسقاطاتها لاستذكار الشيخ "صالح العلي" الذي قاد معارك ضد الأتراك ثم الفرنسيين في جبال الساحل السوري، وتمّ تخليد اسمه كأحد رموز الثورة ضد الظلم والاستعمار. 

ورغم المكانة التي احتلها في وجدان أبناء الطائفة العلويّة على وجه التحديد، وأبناء المنطقة الساحلية ووسط غرب سوريا، فقد بقيَ نزاعه مع ملّاك الأراضي الإسماعيليين (يُقال أنه بسبب دسائس فرنسية) وتهجير قسم منهم في عشرينيات القرن الماضي مَوضِع جدل جَعَلَه في عيون سوريين آخرين "قاطع طريق".

تُحِيل هذه المعطيات إلى حقيقة يعيها أبناء سوريا ولبنان (باعتبارها مجتمعات متشابهة البُنى) وقد يتجاهلونها، ومفادها أنّ الحِراكات الثورية عندما تبدأ أو تتحول لنضالات دفاعاً عن العِرض أو العائلة أو الطائفة بالمعنى الضيّق دون أن يصبح لها إطار سياسي، فإنها لا تنتج سوى رموز لجماعات متنافرة تختلف فيما بينها على توصيف الشخص. ولا يُغيّر في الأمر كثيراً كون العنف موجّهاً ضد مستعمر خارجي أو مُكوّن داخلي (شريك في الوطن) أو الاثنين معاً طالما أن معيار تقييم البطل هو قسوته أو رِقَة قلبه من ناحية، وسَخَاؤه وعطاياه من ناحية ثانية. وتالياً حرصه على التوازنات والتعايش في حال بلوغ نهايات توافقية.


يجري ذلك في ظل تنافس ريفي على المُلكيات، بصِيَغِهِ المتخلفة عن ركب التطور، يفرز حالات استعباد تقف في المنتصف بين البدائية والحداثة، وتؤدي إلى استقطابات غير سياسيّة واقتتال دموي متحلل من أي ضوابط وقوانين (استهداف نساء وشيوخ وأطفال وقتل بأساليب سادية..). وكتصحيح لظروف قاسية في بيئة تتنازعها عصبيات الضيعة والعشيرة والطبقة إلى جانب التباينات الطائفية يأتي الرد إما بغزوات مضادة أو بتهجير واقتلاع مجموعات سكانية واستيطان أراضيها، أو بقوانين تقتص من المالكين السابقين باسم "الإصلاح الزراعي".

وبالنسبة لقادة الحركات والثورات، فغالباً ما يكونون مقاومين بالصدفة مع احتمال أن يكون لدى أحدهم مشروع وطني في حال توفر التجربة والخبرة، دون أن ينسى نواته الأولى أي جماعته مصدر ثأره وفخره.

وفي الحالة السورية، يصبح استعراض هذه التناقضات البنيويّة وَصلاً للماضي بالحاضر، لأن ظروف صنع "البطل" ظلّت هي ذاتها، ولأن التغيرات اقتصرت على استبدال خطوط القتال والغزو القديمة وطرق التحكم بالناس من السيطرة على محصول القمح إلى احتكار مواد ومعابر ومساعدات تحت مظلة حكومية أو ميليشيوية، ومن ثم نثر الفُتات على المقهورين والاستماع لتهليلاتهم وشُكرِهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها