الأربعاء 2023/04/26

آخر تحديث: 15:57 (بيروت)

المصريون غاضبون من "كليوباترا"..لماذا لم يغضب البريطانيون من "بريدجيرتون"؟

الأربعاء 2023/04/26
المصريون غاضبون من "كليوباترا"..لماذا لم يغضب البريطانيون من "بريدجيرتون"؟
الملكة شارلوت في "بريدجيرتون"
increase حجم الخط decrease
في العام 2020 لم تمنع البشرة الداكنة للممثلة البريطانية غولدا روشوفيل (52 عاماً)، من لعب دور الملكة شارلوت في سلسلة "نتفليكس" الضاربة، "بريدجيرتون"، أحد أكثر المسلسلات مشاهدة على الإطلاق في المنصة الشهيرة، ولم يخلق ذلك أي دراما إضافية للمسلسل الذي عاد بالزمن إلى أواخر القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر، لتقديم قصة فانتازية رومانسية تاريخية، على غرار الدراما الحاصلة هذه الأيام إثر الاعتراضات المصرية على تجسيد ممثلة داكنة البشرة أيضاً لشخصية الملكة كليوباترا في وثائقي تعرضه "نتفليكس" الشهر المقبل.

وفيما أثار دور الملكة شارلوت (1744-1818)، وهي شخصية حقيقية يُعتقد أنها تنتمي للأسرة المالكة البريطانية وتظهر في اللوحات الفنية بيضاء البشرة، نقاشاً تاريخياً في وسائل الإعلام، فإنه لم يكن حاداً ولا متشنجاً بصورة دعوات للمحاسبة والمنع والحجب والتضييق على الحريات، كما أنه لم يقدم نظريات مؤامرة تتصور وجود رغبة لدى هوليوود في إعادة كتابة التاريخ وسرقة إنجازات الحضارات ونسبها للأفريقيين، من بين كل الجماعات البشرية المضطهدة تاريخياً، بسبب ثقافة الـ"ووك" ودعوات الصواب السياسي.

وتم ربط فيلم "كليوباترا" لشبكة "نتفليكس"، والذي لم يصدر منه سوى إعلان ترويجي فقط، بحركة الـ"أفروسنتريك" وبالممثل الأميركي كيفن هارت الذي ألغيت فعاليات له في القاهرة في شباط/فبراير الماضي بعد حملة مقاطعة بسبب تصريحات قال فيها عن الحضارة المصرية: "يجب أن نعلِّم أولادنا تاريخ الأفارقة السود الحقيقي عندما كانوا ملوكاً في مصر، وليس فقط حقبة العبودية التي يتم ترسيخها بالتعليم في أميركا، هل تتذكرون الوقت الذي كنا فيه ملوكاً؟". علماً أن هارت لا علاقة له بوثائقي "نتفليكس" الجديد.

الفرق بين ردّ الفعل البريطاني الهادئ ونظيره المصري الحاد، على تصدير ممثلين داكني البشرة لتأدية شخصيات تاريخية، مثير للاهتمام، ويظهر ربما كيف أن مجتمعاً متقدماً من ناحية الحقوق والحريات والمساواة كالمجتمع البريطاني، قادر على تقبل هذه النوعية من الأعمال من دون حساسيات عرقية، إلا من طرف اليمين المتطرف والمنادين بنظريات متطرفة كـ"الاستبدال العظيم". على عكس مجتمع غارق في أزماته منذ عقود بشكل يتجاوز موضوع الوثائقي نفسه، نحو أزمة هوية أعمق تتعلق بأسئلة لا أجوبة لها، كانت حاضرة بشكل واضح منذ مطلع العقد الماضي إثر ثورات الربيع العربي، بما في ذلك الثورة المصرية، حول معنى الانتماء للكيانات السياسية القائمة.

ما معنى أن يكون المرء مصرياً أو سورياً أو لبنانياً؟ في الدول التي شهدت حروباً أهلية وسعاراً طائفياً كان الانتماء المذهبي والديني والإثني بصورته الأضيق حاضراً للتعريف عن الذات، حتى من قبل وسائل الإعلام الرسمية في خلافها مع الدول المحيطة. في سوريا مثلاً تم تبني خطاب "نقص العروبة" لسنوات قبل المصالحة بين نظام الأسد ودول عربية متتالية. في مصر، حضر الخطاب نفسه الذي حاول استجرار الهوية الفرعونية مقابل الهوية العربية. وتلك فقط أمثلة عن حالة أوسع تم فيها طرح خطابات مختلفة.

من المثير للاهتمام حقاً أن كثيراً من المشاكل في المنطقة العربية تبدو للحظة وكأنها مشاكل تاريخية لمراقب خارجي، بمعنى أن ما يحرك مشاعر الناس ويستفز غضبهم هو الماضي أكثر من الحاضر أو المستقبل. صورة كليوباترا السوداء، أو الجدل حول أصول مدينة بغداد الذي كان رائجاً في "تويتر" مؤخراً، أو التساؤل إن كان العرب غزاة أم فاتحين، أو مراجعة التراث الديني واللغوي الذي لم يتغير منذ قرون، وغيرها، تبدو أكثر أهمية للملايين الغاضبين يومياً من مواضيع ملحة يومية من معدلات الفقر إلى السجون المكتظة بسجناء الرأي إلى تراجع الأمن الغذائي وأزمة التغير المناخي وغيرها من عناوين عريضة تترجم إلى قصص يومية عن أفراد لا يحظون بالاهتمام والتعاطف أو الغضب اللازم.

يتساءل كثير من المعلقين، ساخرين: هل إن تجسيد "ممثلة سوداء" لكليوباترا "اليونانية المقدونية البيضاء"، يعني أن العالم سيشهد في المستقبل تجسيد ممثل صيني مثلاً لشخصية لاعب كرة القدم الأرجنتيني مارادونا؟ وبغض النظر عن نية العنصرية من عدمها في هذه النوعية من التعليقات، فإن طرحاً موازياً يمكن تقديمه وهو: "لمَ لا؟" هل من المهم حقاً لون البشرة وملامح الوجه عند تأدية أدوار شخصيات تاريخية؟ أم أن ذلك مجرد عقبة أخرى أمام مزيد من الانفتاح على حقيقة أن لا فرق بين البشر خصوصاً أنه من ناحية جينية لا يوجد شيء مثل "العرق الصافي" بل يوجد اختلاط "عرقي" كبير على مر تاريخ البشرية.

بالتالي فإن الاستياء من لون بشرة كليوباترا قد يكون عنصرياً ليس لأنه ينطلق من نظرية دونية للأشخاص ذوي البشرة الداكنة من قبل المصريين الذين تحوي دولتهم طيفاً واسعاً من ألوان البشرة ضمن خليطهم السكاني نفسه، بقدر ما هو عنصري لأنه يركز على فكرة النقاء المصري-الفرعوني ومركزيته في وجه المركزية الأفريقية المتخيلة التي يوجه غضبه نحوها.

يقول الباحث في علم الجينات د.آدم راذرفورد، أن كثيراً من الأشخاص يفكرون في منطقة جغرافية معينة على أنها معزولة جسدياً وثقافياً، في حين أنه لا "أمة ثابتة"، لأن الناس عبر التاريخ تنقلوا وسافروا وهاجروا و"مارسوا الجنس أينما أمكنهم ذلك". لكن فكرة الثبات والجمود التي تقود للعنصرية تأتي من أن "الناس يكونون ثابتين إلى حد كبير على مدار بضعة أجيال" ويولد ذلك شعوراً بأن المكان نفسه عبارة عن مرساة جغرافية وثقافية، وهذا ليس دقيقاً.

هذه المقاربة مثيرة للاهتمام حقاً، لأن الكثير من الباحثين يصفون منطقة الشرق الأوسط بأنها منطقة جامدة ومنغلقة على نفسها لفترة طويلة، خصوصاً في فترة الحكم العثماني، وحتى بعد حركات الاستقلال في الدول العربية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية. وفيما يتفاوت ذلك الجمود من دولة إلى أخرى، إلا أن الانغلاق نفسه كان سمة أساسية للحكم العربي خصوصاً من ناحية التحكم في الإعلام والرقابة. ولهذا كانت القنوات الفضائية في التسعينيات مثلاً حدثاً كبيراً بالنسبة للأفراد الذين تمكنوا من كسر الرقابة المحلية عليهم، وكانت قناة مثل "الجزيرة" مثلاً شديدة الأهمية لأنها قدمت صوتاً إخبارياً يختلف عن الصوت الرسمي، بغض النظر عن مدى موافقة الأفراد أو معارضتهم لطروحاتها. وتعزز ذلك بعد انتشار الإنترنت ثم مواقع التواصل الاجتماعي التي مكنت في مجموعها الناس في الشرق الأوسط من تلمس إمكانية لحياة أفضل عبر مشاركة التجارب الإنسانية والاطلاع على الحياة خارج الأسوار والحدود التقليدية.

بعكس ذلك كله، فإن دولة مثل بريطانيا تجاوزت ذلك كله بسبب حضور الديموقراطية وتطور المجتمع هناك على مر السنوات تدريجياً نحو ما هو عليه اليوم. ويصبح التمثيل العرقي في مختلف مجالات الحياة، ليس فقط ضرورياً بل عادياً وطبيعياً، من دون صدامات وتشنجات، كما أن ذلك التمثيل العرقي يحدث من تلقاء نفسه وليس بأوامر وتوجيهات وسياسات مسبقة تستهدفه بحد ذاته، إلا في البدايات ربما حيث تلتزم الشركات والمؤسسات، الحكومية أو الخاصة، بتقديم مزيد من التنوع لأن الحياة نفسها متنوعة وأشمل من أن تختصر في مكون واحد.

ما تعرضه "نتفليكس" وغيرها، من مظاهر للتنوع العرقي، حتى في فترات تاريخية لم يكن ذلك فيها حاضراً بقوة، كما هو الحال في "بريدجيرتون" حيث حضرت شخصيات من أصول هندية في أدوار قيادية خلال الموسم الثاني مثلاً، يتجاوز خطاب التصنيف العرقي الذي يعتبر هداماً في المجتمعات المعاصرة. وتجاوز ذلك الخطاب يتطلب نظرة إلى الحضارة ككل كحضارة بشرية إنسانية ليست حكراً على عرق بشري دون آخر. وبالتالي فإن النظرة الأشمل للحضارة الفرعونية هي بكونها حضارة إنسانية لا حضارة مصرية خالصة، وكذلك الحال بالنسبة لأي حضارة أخرى يتم تناولها وفق رؤية حالية. ذلك لا ينفي التاريخ ولا يزوره بل يضعه في سياق أشمل يجعل حتى "الأقليات" التي تعيش في دولة كمصر حالياً تشعر بانتماء أكبر لتاريخها نفسه الذي قد تتعرض للإقصاء منه، عن قصد أو من دون قصد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها