الإثنين 2023/04/17

آخر تحديث: 10:43 (بيروت)

الصفّارة التي تمنّيتُ

الإثنين 2023/04/17
الصفّارة التي تمنّيتُ
increase حجم الخط decrease
يوم 9 أكتوبر 2014، لا أنسى ذلك التاريخ أبداً. على مدار الأعوام الماضية، كانت لدي رغبة واحدة تلحّ عليّ ليل نهار، أن أعود إلى ذلك اليوم لتغيير قرار اتخذته وقتها، ترتّبت عليه قرارات خاطئة ومؤذية في حياتي، أكبر صدمة أعيشها ولا أستطيع نسيانها.

قابلتُ خلال حياتي الكثيرين ممن لديهم الرغبة نفسها، باختلاف الأحداث والقرارات والتصورات. كم سمعت مراراً: "يا ريتني ما عملت كده"، يتبعها أحياناً بكاء، أمنية بالعودة إلى ذلك اليوم وتغيير أحداثه، فربما تتغير الحياة فتصبح أفضل. أحدهم يتمنى ألا يكون في هذه الزيجة، وآخر أن يكون قد وافق على السفر إلى الخارج بدلاً من الرفض، وثالثة غرقت في علاقة عاطفية استهلكت صحتها وجسدها وانتهت موجعة، ورابعة تتمنى لو أنها لم تطلب من زوجها السفر في ذلك الوقت فلا يتعرض للحادث الذي أودى بحياته وهو في عز شبابه.

هذه هي الرؤية الأساسية للمسلسل المصري "الصفارة" الذي يعرض في موسم رمضان الحالي. تبدأ الأحداث مع شفيق (أحمد أمين) الذي يظهر في حالة رثة وانهيار تام بعد فشل ذريع حوّله إلى مجرد بائع للتحف التذكارية، وذلك كله بسبب لحظة مفصلية في حياته أفضت إلى سنوات من التراجع وجعلته رجلاً فقيراً وبائساً.

يعرف شفيق بوجود صافرة أثرية، تنتمي إلى عصر المصريين القدماء، لديها قدرة سحرية على إعادة الشخص إلى لحظة ما في ماضيه يختارها بعناية لتغيير أحداثها، من أجل أن يرتب مستقبله بشكل مختلف. لكن، طوال حلقات المسلسل، كان شفيق يعود دوماً إلى تلك اللحظة أثناء اجتماع شركته لعرض مشروعه، حينما يحبسه زميله في الحمّام ويستولي على المشروع ويصبح المسؤول عنه. يعود تكراراً إلى تلك اللحظة ويغيرها، وبالتالي يعيش حاضراً مختلفاً كل مرة.

لكن اللافت أنه حينما "يعود" إلى المستقبل، يكتشف أن هناك سبعة أعوام لا يتذكّر عنها شيئاً، لا أفراحها ولا أحزانها، كما أن كل اختيار كان يؤدي إلى شيء إيجابي وآخر سلبي في الوقت ذاته. فتارة يصبح رجل أعمال ناجحاً، لكنه بدين جداً وغير مبالٍ بصحته ولا مهتم بزوجته التي يحبها حتى أنها تقرر تركه. وتارة يكون مجرماً وبلطجياً، لكنه ضعيف الشخصية وعلى وشك أن يُقتل. وتارة أخرى، يصبح مطرب مهرجانات شعبية، لكن شقيقه يعاني صدمة عاطفية ويوشك على الانتحار.

منذ بداية عرض المسلسل، وأنا لدي قناعة ورغبة شديدة في العودة إلى ذلك التاريخ، 9 أكتوبر 2014، ولا أزال. وعلى مدار تلك الأعوام، لطالما تساءلتُ: لو عدت إلى ذلك اليوم ولم أتخذ القرار ذاته، هل كان سيتغير واقعي؟... آلاف الاحتمالات سرَت في عقلي، فكان الأمر أشبه بلعبة ماتريوشكا الروسية. الخدعة في ما يخبئه القدر، الاحتمالات التي تفاجئنا. سلسلة لا نهائية، متداخلة.

ربما لو لم أعمل في تلك الصحيفة، التي استهلكت وقتي وأعصابي، ومن أجلها رفضتُ العمل في صحيفة أخرى عرضت عليّ العمل بأكثر من 10 أضعاف ما أتقاضاه مع امتياز العمل مع أساتذة محترفين، ربما كان وقتها سيتغير قدري. فقط لو وافقتُ! ربما لو لم أذهب إلى المجلة في ذلك اليوم أو تلك الساعة، لم يكن ليتشاجر معي زميل لي كان مستشيطاً وقتها، وقرر التهجّم عليّ، وإهانتي أمام الجميع! ربما لو لم أختر الصحافة عموماً لارتحتُ من كل وجع الرأس ذاك، وأرحتُ نفسيتي وأعصابي.

لكن الهروب من القدر أو تغييره لا يعني النجاة من الاحتمال الذي نظن أنه سيكون مختلفاً. فبعد مشاهدة "الصفارة"، ورغم كونه كوميدياً، بلغتُ القناعة بأن ما نظنه الخيار الأمثل الذي فوّتناه على أنفسنا، هو فقط ما نتصوره كذلك، لأننا ببساطة لم نمشِ بموجبه، وبالتالي لا نعرف هل سيكون صائباً، أم لا. الحقيقة أنه ربما لا يكون كذلك. وربما إن سِرنا به، ندِمنا، لأننا لم نختر الاحتمال الآخر، لنظلّ في دائرة ندم مُفرغة لا تنتهي.

بعدما قرأت قليلاً في البوذية، لامَسني ما يعتقده البوذيون عن مفهوم الولادة الجديدة، أي وجود حياة جديدة بعد الموت في دورات لانهائية تسمى "سامسارا". يمكن لهذه الدورات أن تكون حارقة ومؤذية، لكنها تنتهي بحالة التحرر أو الخلاص، حالة التنوير "نيرفانا".

بالعودة إلى "الصفارة"، وبعد جريان الحلقات، تنبهتُ فجأة إلى تفصيل لافت، "نيرفانا" درامية وأيضاً شخصية، لي أنا. ففي كل حياة اختارها شفيق، على التوالي، كان شقيقه وجيه يردد دوماً عبارة: "أنا سعيد أوي في حياتي دي، أقسم بالله، أنا على قمة جبل السعادة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها