الأحد 2023/04/16

آخر تحديث: 09:49 (بيروت)

تحولات الدراما السورية من إقصاء المحجبات..الى تهم التنميط

الأحد 2023/04/16
تحولات الدراما السورية من إقصاء المحجبات..الى تهم التنميط
increase حجم الخط decrease
المقولة الرائجة في الفترة الأخيرة بشأن تنميط المسلسلات الدرامية العربية للمحجبات وتقديمهن بصورة سلبية، قاصر، خصوصاً إن كانت تنطلق من فهم مشوه للصوابية السياسية التي تقول إنه يجب تقديم تمثيل أكثر تنوعاً في المنتجات الإعلامية والثقافية، بدلاً من الدفاع عن حقوق الأفراد في وجه السلطة عموماً بما في ذلك السلطة الدينية نفسها، وأكثر، إن كان ينطلق من مفهوم سلطوي بحكم أن الإنتاج الدرامي والثقافي نفسه في دول كسوريا ومصر وغيرهما، ليس مستقلاً بقدر ما هو موجه.

في الموسم الرمضاني الحالي برز مسلسلان، الأول مصري بعنوان "تحت الوصاية" والآخر لبناني سوري مشترك بعنوان "النار بالنار" أثارا اتهامات سطحية بأن الدراما العربية تتعمد تشويه صورة الحجاب كقدسية يجب الوقوف عندها واحترامها، وهو طرح غريب في زمن شهدت فيه المنطقة ثورات طالبت بالحرية من جهة، إلى جانب احتجاجات شعبية في إيران القريبة كانت فيها النساء يكافحن لخلع الحجاب، أو على الأقل للحصول على قليل من الحرية لتخفيف القيود المفروضة على أجسادهن لو أردن ذلك. 

والمسلسل الأول لم يكن لينال أي نقد لو لم تكن بطلته منى زكي، وهي شخصية مثيرة للجدل منذ مشاركتها في فيلم "أصحاب ولا أعز" الذي عرضته "نتفليكس" في العام الماضي، وأثار انتقادات لكونه يقدم شخصيات متحضرة وليبرالية بشكل يتم تفسيره من قبل المحافظين في المنطقة على أنه "طرح غربي هدام للقيم الإسلامية والعائلية".

والدليل على ذلك أن الانتقادات انطلقت من صورة زكي في بوستر العمل أي قبل عرضه ومشاهدته. وكانت المقولة السائدة أن زكي تتعمد تقديم المحجبات بصورة قبيحة بسبب شكل حاجبيها ونظرتها المرهقة! رغم أن الشخصية نفسها قد تكون مرهقة مثلاً بسبب الظروف المعيشية القاسية ما قد يقدم قصة متعاطفة مع البطلة، لا ناقدة لها.

وفي المسلسل الثاني، الذي طاولت كاتبه رامي كوسا انتقادات كثيرة من ناحية اقتباسه من مسلسلات ناجحة في السنوات الأخيرة بما في ذلك سلسلة "غداً نلتقي" الذي قد يكون أفضل ما قدم في الدراما السورية في العقدين الأخيرين، تركزت الانتقادات على مشهد واحد تخلع فيه البطلة مريم (كاريس بشار) حجابها لالتقاط صورة من أجل جواز سفر مزور، يقدمها كلبنانية لا كسورية. ومرد الانتقادات هو أن لبنان كدولة قائمة على أسس طائفية متجذرة في السيستم الاجتماعي والسياسي، يحتوي ملايين المسلمين، ما يجعل الخطاب الصادر عن المسلسل متحيزاً.

في الحالتين، تبقى الانتقادات قاصرة لكونها لا ترى الصورة الأوسع التي تظهر في سوريا كواحدة من أقطاب صناعة الدراما العربية، بشكل أوضح من أي مكان آخر، حيث تتحكم السلطة الحاكمة بشكل مباشر وغير مباشر في تلك الصناعة واسعة الانتشار لتقديم صورة المواطن المثالي الذي ينال الرضى. وفي تلك الدراما كانت المحجبات مهمشات طوال عقود غابت فيها البطلة المحجبة عن الشاشة، رغم أن سنوات السبعينيات كانت تقدم صورة أكثر تنوعاً وأكثر قرباً من المجتمع السوري قبل أن يبدأ مسار التحول إثر مجزرة حماة مطلع الثمانينيات، وما تبعها من تشديد رسمي ضد كل ما يُتهم بأنه "متطرف إسلاميّ" حينها.

وعليه، لم تكن المسلسلات السورية تظهر شخصيات محجبة وتحديداً في الشخصيات الرئيسية، وكانت الممثلات السوريات غير محجبات دائماً بما في ذلك في خلفيات المشاهد. وعند تقديم الشخصيات المتدينة في أسر تعيش في دمشق مثلاً، يتم طرح الجيل الشاب كشخصيات أكثر تحرراً من ناحية اللباس والتصرفات مقابل إظهار الأم مثلاً في الخلفية متحجبة وتصلي. ويظهر ذلك في مسلسلات كثيرة مثل "دائرة النار" من بطولة الفنان الراحل طلحت حمدي العام 1988 على سبيل المثال.

بقي ذلك حاضراً لعقود، إلى أن بدأ الإنتاج يصبح أكثر مرونة في سنوات الألفية الجديدة، لكن مخرجين يقدمون الرؤية الرسمية للنظام السوري، إلى حد تعيينهم في مجلس الشعب، مثل نجدة أنزور، قدموا بعد غزو العراق مسلسلات قدمت المحجبات كبطلات بسبب حديث مسلسلات تلك الفترة عن الدين والتطرف الإسلامي كمشهد طارئ على المجتمع السوري من قبل "الغزو الإرهابي" الذي يستهدف الإسلام السوري السمح (شيفون، ما ملكت أيمانكم، ..) واستمرت تلك الصورة بعد الثورة في البلاد رغم أن المسلسلات السورية بدأت تسمح بعرض بصري لرمزيات الطائفة السنية في البلاد، فعرضت مسلسلات يتم فيها الاحتفال بعيد المولد النبوي، رغم أن ذلك يظهر إفتعالاً في تقديم الإخاء الديني (بنات العيلة)، ومسلسلات أخرى كانت فيها المحجبات شخصيات فاعلة بشكل إيجابي من ناحية وقوفهن إلى جانب الجيش السوري حيث يخدم أشقاؤهم وأحبابهم وغير ذلك.

العلمانية المفترضة للنظام السوري كانت الأساس لذلك التوجه، رغم أن العلمانية في البلاد كذبة تفضحها العلاقة العلنية بين السلطة التي تحكم باسم الطائفة العلوية مع رجال الدين السنة مع حديث عن حماية الأقليات كالمسيحيين. وفي صناعة الدراما طوال عقود، كانت السلطة توجه بشكل مباشر وغير مباشر لإنتاج أعمال درامية لا ترسم فقط صورة للمواطنين بل لرجال الدين أيضاً حتى في مسلسلات البيئة الشامية الخيالية.

واللافت أن تلك الأعمال تحديداً  كسرت كثيراً من القوالب بتصديرها السنة المحافظين إلى البطولة. ولم يكن ذلك موارباً بل كان فجاً إلى حد التطرف حتى من ناحية لغوية إلى جانب تزوير التاريخ. ولسنوات كانت هنالك تساؤلات عن أسباب تجعل نظاماً كنظام الأسد في سوريا يقبل بمثل هذه النوعية من الإنتاجات في البلاد، رغم أنها تقدم صورة سلبية عنها، والجواب يكمن في الجواب نفسه، أي في الصورة السلبية التي تستخدم في مسلسلات أخرى وحتى في الخطاب الإعلامي والدبلوماسي كمبرر للعنف ضد الأفراد في الواقع بشكل يرسم السلطة كقيادة حكيمة تقود جموع الجاهلين المساكين إلى النور.

وكانت هنالك بالطبع استثناءات لأن الفن كأداة للتعبير فردياً ومجتمعياً يستطيع الانفتاح أحياناً على أفكار واقعية من دون قصد ربما أو لأن السلطة أحياناً تسمح بحيز من الحريات لا توفره باستمرار. وحدث ذلك في مسلسل "زمن العار" العام 2009 عندما برزت الممثلة سلافة معمار إلى النجومية على مستوى الوطن العربي بأدائها لشخصية بثينة، المحجبة التي تعيش في بيئة سنية محافظة من دون رتوش أو تجميل للواقع أو محاولة لتشويهه. وبعد ذلك قدمت معمار مجموعة من الشخصيات المشابهة كانت كلها محجبة قبل أن تنجو من التنميط لاحقاً.

الاستثناء الآخر، يظهر على مستوى مختلف في الكوميديا الفاقعة في طرحها، كما يظهر في مسلسل "يوميات أبو الهنا" للممثل دريد لحام في تسعينيات القرن الماضي، وسلسلة النجوم من بطولة الممثلة البارزة سامية الجزائري، لكن تلك المسلسلات ارتبطت أكثر بالواقع الاقتصادي والاجتماعي للسوريين في تسعينيات القرن الماضي أكثر من ارتباطها بالهوية الطائفية، بشكل ظهر جلياً في مسلسلات الممثل والكاتب محمد أوسو (بكرا أحلى، كسر الخواطر، ..).

ولم تكن مسلسلات أوسو، الذي ينحدر من الأقلية الكردية في البلاد، خائفة من تقديم طرح أكثر واقعية للمجتمع السوري من ناحية الرمزية البصرية، حتى ضمن إطار كوميدي، ولهذا السبب حظيت بانتشار واسع وتعاطف من قبل ملايين شاهدوا أنفسهم للمرة الأولى على الشاشة كشخصيات تعيش حياتها اليومية ولا يتم تنميطها أو محاكمتها بلا سبب. وليس غريباً أن السلطة حاربت أوسو لاحقاً واعتقلته بعد الثورة السورية، ليختفي من المشهد الإعلامي والدرامي لسنوات في المنفى، على غرار عشرات الفنانين الآخرين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها