الأربعاء 2023/04/12

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

لباس المرأة الجنوبية.. كصراع سياسي

الأربعاء 2023/04/12
لباس المرأة الجنوبية.. كصراع سياسي
إضفاء طابع التديّن على الطائفة الشيعية في لبنان ليس دقيقاً (الصورة لمصور فرنسي مجهول التُقطت عام 1953-من أرشيف علي دياب)
increase حجم الخط decrease
الاحتفال بتصنيف الباحثة العراقية فاطمة حسن ياسر، ضمن أبرز 100 خبير(ة) تقني(ة) في العالم، ونشر صورتها بالحجاب والعباءة السوداء على نطاق واسع في "تويتر" اللبناني، يندرج ضمن إطار الرد غير المباشر على خطاب نشأ في العام 2019، وتجدد دورياً، عن صورة المرأة الجنوبية وزيّها، وكان الممثل طارق تميم، آخر من عقد تلك المقارنات، ما أثار موجة ردود عليه.


ومع أن الاعلان عن اختيار ياسر في اللائحة، حصل قبل 10 أيام، إلا أن نشر الصورة، بكثافة في "تويتر"، أريد منه مواجهة "تنميط" للمرأة المحجبة بالعباءة السوداء، حسبما عبّر مغردون متدينون في الطائفة الشيعية في لبنان. يذهب هؤلاء الى استنتاج سياسي، "يُراد منه وسم الطائفة بأكملها بحزب الله"، و"لصقها بايران خلافاً للحقيقية"، وذلك "لانتزاع دورها اللبناني". 


ثمة شيء مما يُقال هنا، منطقي. فالاتهامات للطائفة بالتحول الى المحور الإيراني، تجافي الحقيقة، وهي اتهامات سياسية تنتزع التحول الطبيعي لأي مكون اجتماعي من سياقه الثقافي، كما تنتزع التطور الطبيعي للديموغرافيا والبيئات الاجتماعية، من التفاعل والتأثر بالمحيط، ومن التحولات الأخرى، خصوصاً أن إضفاء طابع التديّن على الطائفة، ليس دقيقاً.. كما أن وسمها بالتبعية لإيران، أو التزامها السياسي الكامل بحزب الله، يمثل قفزاً في التعميم، وهو صراع جديد يحاول الناشطون الشيعة، المتدينون منهم أو العاملون في الشأن العام، خوضه ضد خصوم "حزب الله"، رفضاً لدفع الطائفة، تحت سيل الاتهامات والتعميم، الى خطاب الحزب وخياراته السياسية. 

والمرأة الجنوبية، خلال توثيق بصريّ لزيّها منذ 70 عاماً على الأقل، لم تظهر سوى بزيّ المرأة الفلاحة في القرى، بفستان ملون ومنديل أبيض، أو بلا حجاب في المدن، في المدارس والندوات الثقافية. بعد ثلاثين عاماً، وتحديداً في السبعينيات، ظهرت الريفيات بالمنديل القصير المعقود على الرقبة، وتنورة بطول "شانيل" تصل إلى ما تحت الركبتين مباشرة. أما الجنوبية المتحدرة من مدن النبطية وصُور والخيام (أكبر من بلدة وأصغر من مدينة)، فظهرت بالزيّ نفسه من دون غطاء الرأس. 


ما لم يظهر في صُوَر تلك الحقبة التي يتحدث عنها الجنوبيون، هو أنه في كل قرية، كانت هناك نساء يرتدين "العباءة السوداء" (وتُسمى ملاية أيضاً) مع "فيشة" تغطي الوجه، هي أشبه بالنقاب. وغالباً ما كنّ زوجات وبنات شيخ القرية الذي تلقى علومه الدينية في النجف الأشرف في العراق. والعدد من تلك النسوة، مع فارق نسبة تزايد السكان، ما زال يحتفظ بهذا الزي، وما زال بعيداً من الكاميرات. 

في مطلع الثمانينيات، بدأت موجة جديدة من الزي النسائي في القرى الجنوبية. نساء علماء الدين الذين تلقوا علومهم الحوزوية في إيران، مع تصاعد حضور حوزة قم إثر نجاح الثورة الإسلامية الخمينية في الوصول الى السلطة. استقطبت إيران، كحوزة وكمرجعية ثورية للشيعة في ظل الصراع مع عراق صدّام حسين، جزءاً من الجنوبيين، وانتقل زي النساء معهم الى لبنان، كما زي الرجال بالقمصان ذات الأكمام الطويلة والمقفلة أزرارها العليا على الرقبة. 

أما زي النساء، فهو العباءة السوداء التي تمتد من أعلى الرأس الى القدمَين، يعلوه "ايشارب" أبيض أو أسود (أو ملوّن بلون واحد)، ولا يغطي الوجه (وبات شائعاً في الأسر المتدينة العراقية الآن والتي لا تضم علماء دين). انتشر الزيّ في نطاق المتدينين في لبنان، كما هو حال المتدينين الذين نقلوا الزي الديني التراثي العراقي.. لتبدأ بعد ذلك عملية تهجين الأزياء، حتى استقرت أخيراً على زيّ لبناني، بهوية خاصة، هي خليط بين اللبناني والتركي والإيراني، بالنظر الى أن معظم أزياء المحجبات، ويا للمفارقة، تُستورد من تركيا الآن. 

وأزياء النساء الجنوبيات اليوم، لا تشبه حقبة الخميسنيات ولا السبعينيات ولا الثمانينيات.. خضعت لتطوير كبير، لتحدد هوية خاصة. وتنقسم على الأغلب، بين شقين. لباس المحجبات المراهقات اللواتي يغطين رؤوسهن بالمنديل الملون، ويرتدين الجينز والقمصان القصيرة، وهو ما يظهر في صفحات المراهقات في "انستغرام".. والمحجبات فوق العشرين، اللواتي يرتدين "الايشارب" الطويل، بقياس كبير جداً، ومعروف بـ"ايشارب الحرير"، ويغطي الرأس والكتفين، وهو الذي ترتديه مذيعات قناة "المنار" والقنوات الإسلامية الأخرى، ويترافق مع الفساتين الطويلة (الشرعية)، أو القمصان الطويلة فوق بنطال، وهو الأكثر شيوعاً. 

فالتفاعل في الزي، الذي نتج عنه الزي اللبناني، قائم على مزيج خاص. البنطال اليوم، مأخوذ من لباس الإيرانيات، وخصوصاً الطالبات منهن. والقميص الملون الطويل، مأخوذ من لباس التركيات، و"الإيشارب" الواسع، هو ابتكار لبناني صرف. تلك الهوية الفنية في أزياء الجنوبيات في محطتها الأخيرة، يجري لصقها زوراً بالهوية السياسية. علماً، أن التجول في الضاحية الجنوبية لبيروت، لن يفضي إلى العثور على أكثر من خمس محال تجارية تبيع العباءة السوداء أو "الفستان الشرعي"، ليس بسبب ثمنها الباهظ، بل بسبب التبدل في هوية الأزياء. 

يفتقر التعميم عن أزياء المرأة الجنوبية، الى حقيقة أن نصف الجنوبيات، بأعمار تتراوح بين عشر سنوات وأربعين عاماً، هنّ غير محجبات. وينتقص الردّ المقابل، الى حقيقة التبدل في هوية اللباس، والتفاعل الثقافي مع بلدان إسلامية محيطة، حيث يغرق في استثناء هذا الجانب، ما يثبت حجة خصوم الحزب بالتعميم. لا هذا يراعي الدقة، ولا ذاك. الطرفان يتبنيان موقفين لا يستندان الى أي من الحقائق القائمة. وحدها السياسة تحدّد الاستنتاجات، فيما الحقائق في مواقع أخرى. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها