الجمعة 2023/03/03

آخر تحديث: 17:43 (بيروت)

"غول" الإعلام الفرنسي يبتلع اللبنانية ريما عبد الملك

الجمعة 2023/03/03
"غول" الإعلام الفرنسي يبتلع اللبنانية ريما عبد الملك
وزيرة الثقافة الفرنسية للسيناتور اليميني: "بقيتَ صامتاً أمام إهانة ايريك زيمور لصحافيين"
increase حجم الخط decrease
لم تكن وزيرة الثقافة الفرنسية من أصول لبنانية، ريما عبد الملك، يوم تعيينها في حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون، تتخيل أن الاحتفاء بها كوزيرة من أصول لبنانية في بلدها الأم، سيتحول بعد أشهر "شتيمة" في فرنسا، يعايرها بها أقصى اليمين المتطرف الفرنسيّ.. إلا أن هذا بالفعل ما حصل!

"هربت من الحرب الأهلية اللبنانية، لتُنصَّب وزيرة تقوض حريات فرنسا عوض احترام قيم البلد المضيف". هذه العبارة ليست سوى "موجة" في "تسونامي" الردود على تصريح إذاعي للوزيرة، أشارت فيه إلى إمكانية عدم تجديد هيئة تنظيم الاتصالات السمعية البصرية والرقمية Arcom رخصتي التردد لقناتي C8 وCNews في برنامج البث العمومي المجاني الفرنسي TNT العام 2025، وهو ما اعتُبر "تدخلاً فاضحاً" بعمل الهيئة العامة المستقلة.

والوزيرة التي تجرأت على الاقتراب من محطتين منتميتين لإمبراطورية الملياردير فانسان بولوريه الإعلامية، تحاصرها حملة منظمة منذ أكثر من أسبوعين، سواء من وسائل الإعلام المنتمية لتلك الامبراطورية، أو من صحف يمينية متشددة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتشبّه الوزيرة بفلاديمير بوتين في حكم شمولي، وينتهز اليمين المتطرف الفرصة لقيادة "معركة الحريات" ضد "الأيديولوجية اليسارية"، وعلى رأس المهاجمين، المرشح اليميني للرئاسة إيريك زيمور، والذي، للمفارقة، كانت له حصة الأسد في الظهور على قناة CNews في فترة الانتخابات الفرنسية الأخيرة.

قوانين TNT تنفجر بعبد الملك!
وبعد سلسلة مخالفات للقناتين، آخرها غرامة باهظة بمبلغ 350 مليون يورو. وذلك إثر شتم مقدّم البرامج سيريل حانونا عبر قناة C8، لويس بويارد، النائب عن حركة "فرنسا الأبية" (حزب اليساري جان لوك ميلانشون). وكان بويارد قد اتهم الملياردير فانسان بولوريه، صاحب القناة، "بإفقار فرنسا" إثر شبهات فساد في إفريقيا دارت حوله. وأشارت عبد الملك في مقال نشرته "لوموند" قبل أسابيع، إلى أن التجديد لـ C8 وCNews، تحدده هيئة أركوم بعد تقييمها مدى التزامهما بقواعد البث المجاني TNT، ما استدعى رداً من مكسيم سعادة، عن مجموعة Canal Plus المشغلة للقناتين، معتبرا أنه "لا يحق لوزيرة أن تهدد بسحب رخص البث".

وفي معرض ردها على الرد، عبر إذاعة "فرانس إنتر" العمومية، في 9 شباط الماضي، قالت عبد الملك: "هناك إطار قانوني والتزامات للقناتين مقابل البث المجاني الذي تحظيان به، ومن المفيد التذكير بهذا الإطار"، غامزة من قناة تسجيلهما قرابة 20 مخالفة منذ العام 2019، ومؤكدة في الوقت نفسه أن "أركوم هي الجهة المخولة تحديد عدد المخالفات وحجمها، وتالياً أحقية التجديد من عدمه".

حملة منظمة: إمبراطورية بولوري تردّ
في اليوم نفسه، صدر بيانان عن مجموعتي Canal Plus وVivendi التابعتين لبولوريه، عبّرتا فيهما عن "صدمة شديدة" حيال تصريحات الوزيرة، وسرعان ما تحولت القضية قضية حريات ورأي عام، لكنها بقيت محصورة الى حد كبير، في إعلام بولوريه واليمين، قبل أن تعلق صحيفة "لوموند" منذ أيام على ما سمّته "تسونامي الردود العدائية"، التي انطلقت بوجه الوزيرة "لمجرد تذكيرها بالإطار القانوني لقناتين واظبتا على مخالفته في السنوات الأخيرة على عاتقهما الشخصيّ". 

وفي خلال أربعة أيام فقط، أجريت 24 مناظرة على CNews، وفُتح البث لصحافيين وكتّاب ومؤثرين حذّروا من أننا خرجنا من "الجمهورية الديموقراطية" إلى "جمهورية الموز"، ومن "نظام يريد غلق المساحة العامة والتعددية وإسكات قناتين معارضتين".

وعلى مستوى الصحف، تم خصيص ثلاثة مقالات في مجلة Le Journal du Dimanche، أحدها ساخر، شبّه الوزيرة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عدا عن افتتاحية نارية في مجلة Paris Match بتاريخ 16 شباط، تحدث عن الوزيرة و"إغراء التوتاليتارية".

وعنونت مجلة Valeurs Actuelles، غلافها: "أولئك الذين يريدون قتل CNews" معتبرة أن هيئة أركوم ليست مستقلة كما يفترض أن تكون، فهي تميل الى اليسار، في حين أن رئيسها روش اوليفييه ميستر- الذي عينه الرئيس ماكرون- يواجه ضغوطاً سياسية. 

أما Journal du Dimanche فرأت أن أركوم تحت تأثير "التقدميين"، تتحول شيئاً فشيئاً إلى أداة للسيطرة على الفكر وهو ما يفقدها علّة وجودها.

في السياق، تحدث موقع Télérama عن رد منهجي ضخم، قام به فانسان بولوريه عبر القنوات التي يتحكم فيها، "وهو ما يدلّ على استغلال متزايد لحرية التعبير، والتي، وإن كانت حقاً مؤسساً لديموقراطيتنا، فهي مؤطرة أيضًا بموجب القانون". أما منصة Les Jours فذهبت أبعد في الدفاع عن ريما عبد الملك، معتبرة أن ما حصل كان عملية منظمة بهدف واحد: "التهديد وإضعاف وزيرة لديها الجرأة لمهاجمة فانسان بولوريه".

بولوريه أو الغول
وفانسان بولوريه، هو رجل أعمال وملياردير فرنسي، يمتلك امبراطورية اعلامية آخذة في التوسع، وهو بحسب منظمة "مراسلون بلا حدود الفرنسية" يخضع قنوات امبراطوريته لسيطرته وإيديولوجيته، وهو ما يخالف معايير أركوم حول استقلالية قنوات البث الخاصة والعمومية. لكنه كذلك "الغول" المشار إليه في رواية "Histoire d’Un Ogre" للكاتب الفرنسي الشهير إيريك أورسينا، والذي يرى في بولوريه "خطراً على الديموقراطية". 

وتأتي حرب الردود هذه، في خضم استحواذ بولوريه على جزء كبير من أسهم مجموعة لاغاردير-Lagardère العريقة، ما يعني انضمام قناة Europe 1 ومجلتا "جورنال دو ديمانش" و"باري ماتش"، لامبراطوريته، وفي حين أنّ صفقة الاستحواذ معلقة ريثما تنتهي المفوضية الأوروبية من النظر فيها. وعلّق موقع Les jours على مشاركة المجلتين في "الحملة المنظمة" ضد الوزيرة، معتبراً أن رؤساءهما "ينكرون أن سيدهم هو فانسان بولوريه".

اليمين المتطرف في مواجهة الماكرونية
"وزيرة القمع"، صرخ السيناتور ستيفان رافييه (داعم لإيريك زيمور)، في الجمعية العامة، مخاطباً عبد الملك، ومحذرا إياها من أننا "لا نعيش في حكم سوفياتي".  

والوزيرة إذ اعتبرت أنه "ليس لدينا التعريف نفسه للقمع"، سألت: "ألا يمكن للوزير أن يذكّر بإطار عمل القنوات والتزاماتها التي ينص عليها قانون العام 1986؟"، غامزة من قناة أننا نجد صفر مخالفة لقناتي TF1 وM6 وقرابة 20 مخالفة لـC8و CNews، معلنة استغرابها في الوقت نفسه، دفاع رافييه عن حرية التعبير، هو الذي "بقي صامتاً مراراً أمام إهانة ايريك زيمور لصحافيين في مجالس عديدة".

أما المرشح الرئاسي السابق، اليميني المتطرف إيريك زيمور، فكان في صلب المعركة. ففي مقابلة له على CNews، اعتبر أن كل شيء مرعب في تصريح عبد الملك، بدءاً من كلامها عن "التعددية" كأحد التزامات البث التي خالفتها C8 وCNews، وذلك عبر إذاعة فرانس إنتر "ذات الأيديولوجية الناطقة باسم اليسار المتطرف". 

"لا يمكنك مشاهدة فيلم، أو السير في الطرق، والذهاب الى المدرسة من دون رؤية بروباغندا اليسار، نحن نتعرض لهذه البروباعندا باستمرار طيلة مراحل حياتنا، ثم تأتي عبد الملك للقول أنّ القناتين تهددان "التعددية"، يا لها من سخرية!" قال زيمور، ليرسي بُعداً إيديولوجياً على المعركة، ويوحي في الوقت نفسه أن اليمين المتطرف يقود معركة الحريات بوجه قمع قبضة ماكرون، اليسارية!

أما صحيفة "لوفيغارو" المقربة من اليمين، فصوّبت على قول الوزيرة في المقابلة عينها: "أناضل كل يوم، كوزيرة للثقافة لأحارب أفكار التجمع الوطني"، أي تكتل المرشحة السابقة للرئاسة، اليمينية مارين لوبن، كونه "التكتل الوحيد الذي يطالب بخصخصة قنوات البث العمومي". ورأت الصحيفة أن "هذا التعبير الصريح عن عداء الوزيرة لمكون سياسي، يجعل المرء يتساءل عن إقحامها وزارتها في معركة أيديولوجية وحزبية".

هذا وأشارت الصحيفة إلى حقبة العام 1980-1990، عندما "اعتبر الحزبان الإشتراكي والشيوعي مجالات الثقافة والاعلام سلاحاً أمثل للنصر الإيديولوجي، وهما إلى يومنا هذا، لا يحيدان عن استراتيجيتهما".

بين فكّي الرقابة ومليارديرات الإعلام
والحال أن القضية لم تتم مقاربتها على المستوى الإعلامي في فرنسا، إلا ضمن سردية "اليمين المتطرف"، مقابل "أيديولوجيا اليسار". 

وكان لافتاً أن هذه المعركة باسم الحريات، أرساها اليمين المتطرف في حين أنه هو نفسه متهم بتهديدها، لا سيما حين يتعلق الأمر بالمسلمين والمهاجرين. ويحاول هذا اليمين، وصم ماكرون "باليساري"، وهو الذي يوصّف نفسه بالليبرالي الوسطي، ويحرض اليساريين على انتخابه منعاً لوصول اليمين المتشدد للحكم، واصفاً إياه "بالعدو الأول" للجمهورية. 

والجدير بالذكر أن فرنسا تراجعت أكثر من 20 مرتبة منذ العام 2002 الى اليوم، على مستوى حرية الصحافة عالمياً. وبين فكي رقابة السلطة من جهة، و"امبراطوريات" الإعلام الآخذة بالتوسع من جهة، بدت معركة ما بعد تصريح عبد الملك، تظهيراً للصراع على الإعلام، "ذات اليمين" و"ذات اليسار"، وهو ما لا ينتج سوى المزيد من تقويض الحريات في بلد لطالما تغنّى بالحرية كأحد أبرز الأسس لقيام الجمهورية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها