الأحد 2023/03/26

آخر تحديث: 01:11 (بيروت)

مُسكّنات

الأحد 2023/03/26
مُسكّنات
لوحة الفنان اللبناني حسن جوني
increase حجم الخط decrease
قد يصل العقل أحيانا إلى حالة رفض استقبال، وربما لفظ، أي معلومة، مشهد، رؤية، أو مجرد تخزين جديد في شريحة ذاكرتنا الإنسانية المشحونة على ناصية كل منا. يرفض العقل حينها أي إضافة، أي تسرب من الخارج إلى الداخل، وربما يحاول جاهداً، إضافة لذلك، التخلص من الداخل ودفعه للخارج. أي أنه يتخذ وضعية الدفاع ويُحصّن ذاكرته وخلاياه العصبية، ليتهيأ الكائن بكامله لتنمية حالة ثبات، يغوص فيها بعيداً من اليومي، العادي، الشخصي والجمعي.

في ظل الظروف الصعبة المحيطة بنا، فضلاً عن المصاعب والظروف الحياتية الخاصة بكل منا، قد تشعر برغبة عارمة في الاستيقاظ داخل عالم جديد، هرباً من هذا الزخم المتواصل من الأخبار والتوقعات والمشاهدات المرعبة. تشعر أن روحك المتوثبة، المنطلقة في صراعها الدائم للبقاء، قد تعبت وخفُت توهجها، وأنك بحاجة لإيقاف عجلة الحياة بكليتها. تشعر بانغلاق عقلك، أيضاً، وتوقه للتوقف عن ممارسة مهامه جميعها. فلا تستطيع، في هذه اللحظة (التي قد تطول أو تقصر) ممارسة أي نشاط ذهني، أياً كان نوعه. سيطرت عليَّ، مرات عديدة، هذه الحالة من نفاد طاقة الجسد والروح والعقل، بنوبات وجودية عنيفة. وأظن أننا لم نسلَم منها جميعاً. فكل إنسان، عند لحظة معينة، يشعر أنه لا بد أن ينخلع من ذاته لتتلبّس روحه جسداً جديداً، وعقلاً بذاكرة فارغة.

في خضم إحدى تلك النوبات، اكتشفتُ برنامجاً عن الطبخ يدور في أرياف أذربيجان. فوجئت بعدد مُشاهدات هذه الحلقات في "يوتيوب"، عشرات ملايين المشاهدات. وكل حلقة طبخة واحدة تؤديها امرأة تعرف ماذا تفعل، واثقة، بزيها التقليدي، وبلا أي تعليقات صوتية تشرح طريقة التحضير والمكونات كما اعتدنا.

شاهدت حلقات البرنامج الأذربيجاني، كاملة، كأحد الأسلحة المُشرّعَة في وجه القلق، اللاجدوى، انغلاق العقل الكامل الذي أعيشه. سحبني التصوير داخل الطبيعة، مع صوت طقطقات الطاولات وحوارات الطيور، حركات الطبّاخة المتقنة والسريعة، الحرفية والفنية في آن واحد، حفيف ثوبها المزركش وهي تتبادل التنقل داخل مطبخها البدائي المفتوح مع حفيف الأشجار في عمق الطبيعة الريانة.

تسلَّلَت روحي رويداً. رأيتني أجلس على صخرة ناتئة قريبة، تكشف المشهد كاملاً، والمرأة الريفية في المنتصف كقائدة أوركسترا، تفرم اللحم، تفرط حبات الرمان، تفرم البصل والثوم، تعجن كمية مناسبة من الطحين مع مسلى وماء، تضيف مكونات إلى بعضها البعض، وتفصل أخريات، تُهيئ الخضروات لإضافتها، تداعب قطتها من حين لآخر، تبتسم بصمت للكاميرا،.. تنسحب عيناي من متابعتها بعيداً إلى هذا الامتداد الشاسع من الخضرة التي تستحوذ على جسد كامل من الصخور، وكأني أطير مع عصفور نتبادل الزقزقة. وأراني أزحف بجانب أنثى ثعبان نبحث عن بيض دجاجة. وأراني وردة تنتصب وحيدة فوق كأس تزداد خضرته، وكأني أتمثّل في كل كائن لحظة وقوع بصري عليه.

أعود للطعام، الذي أصبح في قدره ينضج، وللمرأة وهي تهمهم فوق المقلاة (ربما ببعض الجمل السحرية) قبل أن ترمي بها قطع بطاطا مسلوقة مع ورق ملفوف متبّل. وعلى خلاف الواقع، كأني ما عدت أحبذ مضغ الطعام، أو كأني فقط أشبع من مشاهدته ينضج، في حضن الطبيعة.

شعرت أني سُرقت من الزمن، كأني طفلة تدخل عالم رسوم متحركة مليئاً بالألوان، السحر والبهجة واللامعقولية. تتحرك فيما الشخوص الكرتونية تشاركها المرح، تلامس كيانها المرتخي ببلاهة المشاهدة الأولى لكَون يتشكّل أمام عينيها. عندها، تحديداً، بدأ عقلي بالاستجابة لفصل التيار العصبي الكهرومغناطيسي وإعلانه لافتة "مغلق للاستراحة". أحدق في الشاشة أكثر، وأتمنى أن أدخل "عالمهم"، فأهدأ، ولا أخرج منه أبداً.

كم نحتاج هذا النوع من المسكّنات! وكم يحتاج الجسد البشري، بمكوناته غير المحسوسة، إلى عملية فصل تيار الإشارات العصبية أثناء الصحو، لساعة، ليوم، أو حتى لدقائق! مسكنات من نوعية أغاني فيروز العادية، بكلماتها البسيطة التي تعفيك من التفكير، أو من تصوّر أي مشهد. المسكنات التي نبحث عنها في أفلام تافهة، أو في أفلام الرسوم المتحركة، في قراءة الألغاز التي نتشتت عند منتصفها ويغادر العقل نواصينا، ونبقى كجسد فوق سرير إنعاش يتنفس عبر وصلات كهربائية. مسكنات كرحلة طويلة مرهقة بلا رفقة، ممارسة علاقة حميمية أوتوماتيكية بلا انتشاء.. وكل منا يصطنع مسكّنه الخاص الذي يخلعه من ذاته.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب