الجمعة 2023/03/17

آخر تحديث: 10:52 (بيروت)

"تيك توك" وكتاب التربية المدنية

الجمعة 2023/03/17
"تيك توك" وكتاب التربية المدنية
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
قُبيل حلول شهر رمضان، العام الماضي، خصصت معلمة الصف لأطفال في الخامسة من عمرهم، بعض الوقت، لشرح معنى رمضان، وماذا يعني لشريحة من المجتمع، وأهميته الدينية للمسلمين، مؤكدة على ضرورة احترام طقوس وتقاليد وعادات الشعوب والأديان، وأنه خيار يحق لمن يرغب أن يمارسه... حدث ذلك في إحدى مدارس تورونتو الكندية.

ومع اقتراب رمضان هذا العام، دخلت معلمة الصف لأطفال في الحادية عشر من عمرهم، وفي سياق حديثها، قالت إن مَن لا يصوم هو إنسان سيء... حدث ذلك في مدرسة علمانية من مدارس بيروت.

في كتاب التربية المدنية، فصول عن الدستور وحقوق الإنسان، والحرية الفردية والحق في المعتقد. في الكتاب نفسه، دروس عن الضرائب والمال العام، وأيضاً.. حب الوطن. جُمل قصيرة ومواضيع منتقاة، على الأطفال حفظها عن ظهر قلب، كي ترسخ في رؤوسهم الصغيرة. فالغاية الأسمى هي نيل العلامة الكاملة، تقديراً لجهد طفل استطاع تكرار كلمات مصفوفة بشكل ببغائي.

في "تيك توك" قضايا عن الحرية، والتعيير الجسدي body shaming، وشهر الفخر pride month، فضلاً عن حملات تضامن مع قضايا إنسانية حول العالم، تقسم الأطفال بين مناصر لجوني ديب وآمبر هيرد، وبين متعاطف مع القضية الفلسطينية أو مقتنع بحل الدولتين، وبين مصوّتين لأحقية حكم صادر بحق شاب أدى طيشه إلى حادث سير مروّع.. في "تيك توك" ثائرون ضد قمع الحريات وضد الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والكثير الكثير من الفيديوهات التافهة، والمخصصة لتسطيح العقل البشري، وأكثر من ذلك لتقليص قدرة التركيز الى ثوانٍ معدودة قبل أن يضيق المشاهد ذرعاً بالفيديو وينتقل الى آخر لينقر إعجاباً هنا أو زراً آخر يبدّل فيديو لم يثر فضوله.

أطفالنا غارقون في "تيك توك" حتى النخاع، يغرفون ساعات من المشاهدة، تطبع يومياتهم وتصرفاتهم وأفكارهم. ينهلون من "تيك توك" يومياً ما لا يمكن للمواد المدرسية الـ13 أن تمدهم به، ويستمدون من الهاتف المحمول، كيفية التعامل مع حياتهم، وممارسة ما يحبون من غناء أو رقص، وصولاً إلى ممارسة اللاشيء... الكثير من اللاشيء.

أقف في مواجهة كتاب اللغة العربية، وأقارنه بالنصوص التي مرّت علينا في الصغر. أشك في أن كاتبته نالت الموافقة على نشره بواحدة من الصفقات المشبوهة التي تحصل في وزارة التربية. أرفض أن تحفظ ابنتي نصوصاً معينة، لخطورتها على عقل فتيات في سنها. أناقش معها درس التاريخ والجغرافيا، ودروس التربية المدنية، تتحول دقائق الدرس المعدودة، إلى مادة سخرية لا متناهية... تبدو هذه المواد من زمن آخر. فمن أهم مميزات لبنان أنه يعتبر منارة الشرق، وقِبلة علاجية. أما نظامه الاقتصادي الحر وسرّيته المصرفية... فحدّث ولا حرج. نسخر، ابنتي وأنا، من مفهوم الخدمات العامة والمصلحة العامة، ومن مكافحة التهرب الضريبي.

محاولة الحفاظ على اهتمامهم كأطفال بمحتوى الدرس، ولو بوسائل حضارية، تبدو مهمة شبه مستحيلة. لَوم المناهج المدرسية لا فائدة منه، من الأسهل لَوم "تيك توك" الذي أتخم أدمغتهم بالصور الغنية والسريعة. في هذا العالم الافتراضي، آلاف البشر من جنسيات مختلفة تحولوا إلى مشاهير بمئات ملايين المتابعين ومئات الملايين من الدولارات، وكل ما يفعلونه هو تقديم فيديوهات قصيرة، تافهة وسخيفة، على الأقل في نظرنا نحن الأهل.

فلنصُبَّ غضبنا على "تيك توك" الذي يكاد يفقدنا صوابنا. إذ لا يعقل أننا درسنا واجتهدنا وعملنا لسنوات وسنوات، لنقف في العراء كمن يستعطي الأجر على العمل الدؤوب، عمل النملة في قصتها الشهيرة مع الصرصار. النملة التي كانت مَثلَنا الأعلى في الجدّ والاجتهاد، تحسباً لشتاء قاسٍ كالذي عصَف بالصرصار، وإذ بنا في مهب رياض سلامة وهندساته المالية.. في بلادنا التي تمتاز بالسرية المصرفية. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها