الأربعاء 2023/03/15

آخر تحديث: 13:55 (بيروت)

تغوّل اسرائيلي في الإعلام الإوروبي: يهودية الدولة.. لا إسرائيل

الأربعاء 2023/03/15
تغوّل اسرائيلي في الإعلام الإوروبي: يهودية الدولة.. لا إسرائيل
increase حجم الخط decrease
لا يختلف السيناريو الذي انتهجته قناة "فرانس 24" عن ذلك الذي اعتمدته شبكة "دويتشه فيله" حيث حمل السيناريوهان العنوان ذاته: توقيف صحافيين عن العمل بتهمة "معاداة السامية". 

وإذا كان العنوان واضحاً الى هذه الدرجة، ومُحقاً، حسبما عمل المعنيون في وسائل الاعلام الغربية على اظهاره، فإن النمط المنتهج من قبلهم هو كمن يعوم في الماء العكر، الرؤية محجوبة والعمق غير مستدرك والحقيقة مبهمة.

ديموقراطية مقنّعة
يطرح هذا التضييق الممنهج من قبل الإعلام أسئلة عديدة، أولها معنى حرية التعبير في النظام الديموقراطي الأوروبي الذي لطالما اعتبر أن رمز بقائه وتطوره يقوم على تقديس الحرية بكل أشكالها، فيما تدفع هذه التحركات لشعور بأننا نعايش ديموقراطية "موسمية" و"مقنّعة" و"استنسابية". 

ففي مقابل كتم حرية الرأي لصحافيين عبروا عن تحيّزهم لقضية فلسطين، نرى أن الدول هددت سابقاً بفرض عقوبات على "تويتر" في ظل حجب حسابات لصحافيين يتعقّبون رحلات إيلون ماسك مثلاً. وإن كانت الحركة الأخيرة تدل على تمسك هذه الدول بحرية التعبير والصحافة، فإن الازدواجية في التعاطي تضعنا أمام شك في تعاطي الدول واعلامها مع قضايا حقوق الانسان وحرية الرأي بشكل خاص.

و"ليس كل خبر يستحق النشر، إلا الأخبار التي لا تحزن الأغنياء والأقوياء". تختصر هذه العبارة على لسان الأكاديمي الأميركي الداعم لفلسطين، ريتشارد فالك، في تعليقه على كم أفواه الصحافيين، مدى الانتقاء المسيّس الذين يسير فيه الاعلام اليوم. 

الرأي الخاص لم يعد خاصاً
يحاول الاعلام الغربي أن يمظهر كل انتقاد على أنه دعم مباشر لخصم اسرائيل: بصريح العبارة فلسطين. يضع الاعلام الغربي بلا منازع، كل تحيز لصالح الأبرياء العزل في غزة وجنين، في خانة التشكيك بقوامية دولة اسرائيل. وتعرف اسرائيل جيداً أن الحفاظ على قوتها يقوم على السيطرة على الرواية المغايرة لصحافيين اسرائييلين أو فلسطينيين من الداخل من جهة، وتلك الرواية المعممة في الخارج من جهة ثانية. لذا لا تتهاون مع كل من يحاول العبث "بحقيقة ماكرة ومجتزأة" تضخّها ماكينة اعلامية واحدة، حتى إذا كان المنشور رأياً في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي.

وتطرح النقطة الأخيرة جدلية اضمحلال الرأي الشخصي مع تحول المساحة "الخاصة" الى مساحة "عامة"، كما حصل مع صحافيي "فرانس 24" في الأيام الفائتة. اذ لم يعد كافياً أن يدلل الصحافي -تحسباً- بعبارة "الآراء الواردة في صفحتي لا تمثل المؤسسة التي أعمل فيها". فالرأي الشخصي في وسائل التواصل الاجتماعي هو رأي عام يمكن تطويعه، كما في هذه الحالة، لخدمة أجندة معينة قد تحتم على الصحافي فقدان عمله.

قال بعض النشطاء بأن آراء الصحافيين التي عبّروا عنها في صفحاتهم مضى عليها أكثر من عشر سنوات، ما يستدعي عدم الوقوف عندها بهذه الطريقة الجدية اليوم. غير أن الاشكالية لا تكمن في مرور الزمن كنقطة دفاعية، وانما في العمل على مراقبة صحافيين (محددين)، ونبش أرشيفهم في الشبكات الاجتاعية عمداً، و"تأديبهم" في حال تبنوا آراء مغايرة عن المحطة التي يعملون فيها. 

بالتالي، يغدو التساؤل عن مهنية الصحافي وحياديته أمراً مستحيلاً في ظل الضغط عليه للتماهي في تبنيه لأيديولوجية المؤسسة الاعلامية التي يعمل فيها.

هوية الدولة تساوي دينها
لا يمكن أن نفهم موقف الاعلام الفرنسي بمعزل عن الانتهاكات المستمرة بحق "اليهود في فرنسا"، حسب التقارير الحقوقية في فرنسا. وعليه، لا يمكن استبعاد فرضية أن يكون هذا القرار في خانة التماس أيديولوجية الولاء والوفاء لمشروع دولة اسرائيل، كدولة دينية يهودية. 

ومع الاشارة الى يهودية الدولة، تتحول هذه المضايقات الى وسيلة لإضفاء شرعية حول "التفوق العرقي" المرتبط بدين المجموعة، ومساواة كل انتقاد موجّه لممارسات اسرائيل، بـ"كراهية اليهود".

ثمة تعامل غير متجانس مع أديان عالمية أخرى، باعتبار الدين لا يعبر عن الجذور التأسيسية لبناء الدولة، فيما تبقى الديانة اليهودية هي الاستثناء. وبالتالي تتحول التدابير الاحترازية للدفاع عن الدولة الاسرائيليّة متساوية بشكل ملموس بالدفاع عن دينها. وتشهد الأنظمة الاوروبية مزيداً من الانتقادات حول هذا الموقف بالذات، إذ أنها في معظم الأحيان لا تتخذ أي موقف حيال المسّ بالأديان. 

وبغضّ النظر عن صوابية الفعل الأخير وجدواه، كون حرية الدين والمعتقد تحمي الفرد ولا تحمي الدين، لكن المفاضلة والاستثناء تحتّم تقديم التبرير وعدم تجاوز القاعدة، والمعاملة بالمثل.

"الصمت" نحو المزيد من التخلي
لا يهم ما إذا كان الإعلام الغربي مخيراً أم مكرهاً في تحيزه العلني لصالح طرف معين، وتفسيره القاتم لآراء صحافيين كل ما فعلوه أنّهم حاولوا نقل الصورة الموجودة في الجهة المقابلة للمعركة. فالاعلام الغربي يبدو مقتنعاً في ما يفعل في ظل تكرر سيناريوهات توقيف الصحافيين بتهمة "معاداة السامية"، ويتعمّد تكريس عقد اجتماعي بديل يقوم على خلاصة مفادها "الدولة تدعم الحريات لكن بشروط تحددها القوة المهمينة".

حتى الأدلة والبراهين لم تكن لتجبر هذه الدول على عرض الحقيقة بشكلها الموجود، اذ يتجاهل بعض الاعلام الغربي تقارير لـ"منظمة العفو الدولية" و"هيومن رايتش ووتش" حول توسع الاستيطان غير الشرعي معتمداً على المداواة عن طريق الصمت. 

لكن هذا الصمت لا يمكن تفسيره الا كتعتيم اعلامي على انتهاكات لحقوق الانسان. وبذلك يفرض الاعلام الغربي معادلة "الصمت المزدوج"، حيث لا يكتفي بالصمت وحده، وانما يعمد إلى إسكات صحافييه بالقوة. والمريب في هذا الوضع، ان الصمت بالضغط يؤدي الى تغييب الرواية الأخرى تحت ظروف قسرية، ليظهر الموقف العلني في المستقبل أشبه بموقف سلبي أو متخاذل.

تخشى اسرائيل تعدّد الروايات، لأن تعدد الروايات يخالف وجود حقيقة واحدة تسعى الى نشرها في رواية واحدة. فالتعتيم الاعلامي الذي تمارسه من طريق الاعلام الغربي يهدد حق الوصول الى المعلومات، وحق النشر، وحرية التعبير. فاللوبي الإسرائيلي لم يمتثل لموعظة المحكمة العليا في الولايات المتحدة في قضية ويتني وكاليفورنيا 1927، اذ أن المحكمة رفضت وضع قيود على حرية التعبير تحت شعار "المزيد من الكلام لا الصمت".

جُمّدت عقود كل من الصحافيين، دينا أبي صعب وجويل مارون وشريف بيبي وليلى عودة احتياطاً، حتى اكتمال التحقيقات. لكن يستوجب علينا أن نتساءل أيضاً عن القواعد المعتمدة في التحقيق لتحديد مستوى الضرر، والجهة المتضررة، وما إذا كانت هناك نية في تحقيق غرض تدميري، ومدى التأثير والأهم خلفية المحققين السياسية. فالرأي لا يمكن أن يتحول الى خطاب تمييزي وتدميري من دون عوامل ومعايير متكاملة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها