السبت 2023/02/04

آخر تحديث: 14:35 (بيروت)

لبنان اللاعدالة.. عائق النجاة من الذاكرة

السبت 2023/02/04
لبنان اللاعدالة.. عائق النجاة من الذاكرة
increase حجم الخط decrease
محاولة النسيان، شكل من أشكال محاولة استكمال النجاة التي لم أفلح فيها حتى الآن، رغم مرور سنة ونصف السنة على مغادرتي لبنان. الأحداث في لبنان كلها محفزة للذاكرة. اللاعدالة أكبر محفز لعدم نسيان كلّ الظلم والصّدمات. اللاعدالة تمديد للحظة الجريمة، تعميق لعنفها وأذاها. اللاعدالة اعتداء مستمرّ على الضحايا ومن يسعون للنجاة والشفاء.

كما أشعر باستمرار الاعتداء عليّ كناجية من انفجار نيترات الأمونيوم في بيروت، والانهيار المالي والقمع وغيرها، أشعر بحجم الاعتداء المستمر على أهالي ضحايا الانفجار وضحايا الانهيار المالي وما ينتج عنه، وإن نجوت من تداعياته. أشعر بالمآسي، ولا أملك سوى أن أتمنى الصبر لجميع الضحايا وذويهم... والثأر أيضاً.

هي مشاعر أحاول وضع حدٍّ لها وأفشل.. حتى الآن. يكفي خبر سيء آت من لبنان، ليأخذني من محيطي المادي ويخفف من تفاعلي وتركيزي مع من حولي ويعيدني إلى لبنان، مع شعور بالعجز عن القيام بردّ فعل مؤثّر. فكيف إن كان الخبر بحجم الانقلاب على فرصة لمساءلة المتهمين بالتسبب في تفجيرنا! مساءلة فقط، قبل حتى الحديث عن عقاب.

ربما أظهر في مظهر الجاحدة بالنعمة، نعمة النجاة، بالنسبة إلى من ينتظر بلهفة أن يحين دوره ويحالفه الحظ ليغادر البلد، و"يدير له ظهره إلى الأبد"، كما يظن البعض. لكن الهجرة ليست رحلة بهذا الجمال أو البساطة، خصوصاً لمن يحمل أفكاراً تثقل رأسه وتتصارع فيه. لمن يحمل هموم بلده معه وينشد عدالة ما، أو يتوهمها.

قد تكون الهجرة استقراراً مادّياً وأمنيّاً. أيام عاديّة تنقضي بلا خوف وبلا تسارع دقات القلب. كلمات لطيفة يتبادلها الناس من دون أن يقصدوها بالضرورة. لكن الهجرة أيضاً شعور بالنّفي والإقصاء. هي شعور بالاحترام وتلمّس حقوق وواجبات، تخلق شعوراً بالراحة والرضا لا يلبث أن ينقلب عتباً على جور وطنٍ كان أحقّ بنا، لو أحسن إلينا كما أحسنّا إليه. أو أقلّه لو ضمن لنا شيئاً قليلاً من العدالة وبعض الأمان...

أحاول النسيان، بينما تبهرني قدرة كثر من المقيمين في لبنان على ذلك. أتعجّب من قدرتهم على النّأي بأنفسهم عن كل المشاكل والصراعات. هي ميزة يتمتّع بها كثر من أبناء الامتيازات، وأيضاً إعلاميون ومحللون قادرون على البيع والشراء و"تقريش" المصائب. يقرأون الأخبار، يصيغونها ويكملون حياتهم بهدوء وسط كل الخراب. هم أيضاً نجوا من الانفجار، لكنهم وضعوا الثأر جانباً، وقرروا بيع دمهم لمن كاد يقتلهم عن سابق علم بما يحويه المرفأ من مواد متفجرة وبخطورتها.

يستحقّ هؤلاء الحسد أكثر منّا، نحن القابعين خارج الوطن. فهم يُحسدون على قدرتهم على التحكم بذاكرتهم، ونسيان أو تناسي ما تعرضوا له من اعتداء، لحساب الكسب السريع.. أو اعتقاداً منهم بأنهم بذلك يحدّون من الخسائر الواقعة عليهم. لربما في ميزانهم، تتعادل الكفّتان: ما يحصّلونه من مكتسبات من فساد هذا النظام وإجرامه، ولو مرفقة بفرضيّة الموت بانفجار أو غيره، في مقابل ما قد يكسبونه منه. يرضون بهذه المعادلة بما تحمله من مخاطرة تقابلها ثروة ووجاهة وامتيازات.

بالعودة إلى محاولة النسيان، قد يكون التسليم بلا عدالة هذا العالم أسرع الطرق لتحقيق ذلك. وقد يسهّل عليّ قطع الأمل في تحقّق شيء من العدالة في لبنان، لإقامة الحِداد الذي يتحدّث عنه متخصصون في علم النفس، كضرورة للتخطّي، ثم الانصراف إلى يومياتي في البلد الجديد الذي فيه الكثير مما يستحق التأمّل والانبهار... والنّقد. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها