الخميس 2023/02/23

آخر تحديث: 16:15 (بيروت)

لُطف الزلزال

الخميس 2023/02/23
لُطف الزلزال
غرافيتي في بيروت للفنان الكوبي-الأميركي إرنستو مارانجي
increase حجم الخط decrease
"فانية.. فكُن لطيفاً"، عبارة زلزلت وسائل التواصل الإجتماعي بعد حوادث الزالزال في تركيا وسوريا، والهزات التي ضربت لبنان ولم تتوقف حتى الآن. هو وعظ إجتماعي أو ديني، أو تريند نسوق به مع الموجة.

فما الذي سيفنى؟ ومن سيكون لطيفاً؟ ليس السؤال هنا للدخول في تفسيرات دينية. أيعقل أن يفنى الآلاف، لنبحث عن اللطف؟ هذا أكثر ما يجول في بالي كلما لمحت عبارة "فانية، فكن لطيفاً"، خلال التجوال بين فايسبوك وتويتر وإنستغرام. فأبعد من العائلة، مَن سيكون لطيفاً ومع مَن يجب أن نكون لطفاء؟ ولماذا ننتظر المآسي لنكون لطفاء؟ ألم نجد في الراحة والسعادة أو البؤس الذي نعيشه في يومياتنا مُتسعاً للّطف؟

سألتُ نفسي عن معنى اللطف، وكدت أصف نفسي باللطيفة، كوني، مثلاً، إطمأنيت على المحيطين بي ومساحتي الآمنة حين وقعت الهزات. لكني، بعد إعادة التفكير، لم أعد متأكدة. فخلال ثلاث سنوات من وجودي في المبنى السكني حيث أقطن، لم أكن أملك وقتاً لطيفاً للتعرف على أحد من جيراني. وفجأة وجدنا أنفسنا مجموعين وهلعين في "الفلاء"، تلك المساحة العامة بالقرب من المبنى، والتي لا تحطيها مبانٍ أو صخور أو أي شيء قد يلحق بنا الأذية في حال إشتدت الهزات. لا نعرف أسماء بعضنا البعض، لكننا نختبر القلق والخوف والتوتر سوياً. نتساءل في ما بيننا عما عشناه معاً في خلال أسبوع واحد.

في كلا القسمين من مبنى بيتي، لم أحفظ سوى إسم جارة واحدة، وإسم الناطور، و"ختيار المبنى عمو أبو كلود" الذي أتصبّح وأتمسّى به يومياً. وما جعلني أفكر أكثر في مفهوم اللطف أني رأيت "أبو كلود" يجلس في اليوم التالي على الهزة القوية الأولى في لبنان، أمام المبنى مستمتعًا بالشمس، فبادرني فوراً بتحية وابتسامة. لكني شعرت بأني تلقيت ضربة على رأسي.

في ذلك الفجر المرعب، خرج معظمنا من المبنى، وتركنا "أبو كلود" وحيداً، هو الذي يُشعر سكان العمارة بأنه حارسها الجميل، يراقب الأطفال حين يلعبون كرة القدم أمام المدخل، ويناديهم جميعًا بـ"يا جدّو". ألم أستطع أن أجمع بعض الوعي في حالة الخوف كي أطمئن على إنسانٍ يغمرنا باللطف يومياً ويجعلنا نبتسم ونتفاءل ببركته كل صباح؟ بل ربما في المبنى أكثر من "أبو كلود"! لكننا لا نملك الوقت للبحث عن اللّطف المحيط بنا.

لعلنا نسأل أنفسنا: كيف نتدرب على اللطف؟... بعيداً من إنتظار الفناء أو الموت، أو "كسب الحسنات" التي يجب علينا جمعها لدخول "الجنة". فنحن متيّمون بركوب الموجة، مع وابل من الوعظ الذي لا يظهر إلا في المآسي.

فاللطف، إن وجدته في نفسك، فاعلم أنك تملك كنزاً عظيماً، ليس في متناول الجميع، وليس الكل مهتماً بتحصيله أصلاً. وقد يخفف بعضاً من بشاعة هذا العالم الذي، على ما يبدو، يعاني نقصاً فادحاً في اللطف.. أسوة بسائر المواد الأولية وضرورات العيش!
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها