الجمعة 2023/02/17

آخر تحديث: 14:12 (بيروت)

امرأتان أنا

الجمعة 2023/02/17
امرأتان أنا
اللوحة: بابلو بيكاسو
increase حجم الخط decrease
أبحث عني ولا أجدُني!
شخصان أنا.
في شخصي الأول، أنا إنسانة عادية، أمارس مهامي اليومية، أدور مع مطحنة الحياة، أستيقظ، أعمل، أتكلم، أقوم بواجبات إجتماعية، أنام.
أما شخصي الثاني، فأكثر التصاقاً بي من تلك التي تقوم بأدوارها الروبوتية. أبرز ما أقوم به في هذه الثانية، أني أراقب الأولى، التي انفصلت عني في وقت ما، في ساعة وعي للواقع، أو ساعة لا وعي. 

أفكر كثيراً في تلك الساعة التي خلّفت هذا الشرخ. يعنيني أن استطيع تحديدها، يبدو لي أني لو استطعت تحديد ساعة الانفصال تلك، سأستطيع إحتوائي. سأتمكن من التصالح مع نفسي، ليس بالضرورة بهدف إعادة اللُحمة إلى شخصَيَّ أو إعادة توحيدهما، إذ أنني قد أخلُص إلى أن هذا الانفصال هو الأسلم لنا، أي أنا وأنا، ففرض العلاقات ورتقها بعد التشظي، غالباً لا ينفع، قد يمد بعمر العلاقة بضع الوقت، من دون أن تنجو.

تحديد ساعة الشرخ أساسي، لرأب الصدع النفسي، هل كانت احتقانات نفسية أدت إلى الزلزال الكبير؟ أم أنها ضربة قاضية أرتبطت بحدث ما؟ 
فقد تنبهتُ فجأة إلى أني لم أعد المسيطرة عليّ، وأني أراقب تلك المستمرة في حياتها، بلا مبالاة كريهة. فقد سحبتُ منها بريق الابتسامة، وضحكة العينين، هكذا جرّدتها من سحرها، وجلست أراقبها تتلاشى. قد يظن الآخرون أنها بخير، وقد يحسدونها على صخب حياتها، غير آبهة بالأمور الأساسية، إلاّ أن شخصيَ اللصيق استطاع أن يقتص منها، حوّلها إلى خزان أحزان متلاحقة، يجرّها إلى موقع آخر، حيث تتقمص أحزان الآخرين فتحياها، إلى حد التماهي. 
في وقت ما، لم أعد استطع تحديده، وجدتُني أخجل أن أعيش، أستكثر على شخصَيّ الحياة، إذا ما أردتُ تناول وجبة في الخارج، إذا ما ارتدتُ شراء أشياء غير ضرورية، إذا ما خرجتُ، أو ضحكتُ أو أكملتُ حياتي. 

في أيام الحجر الصحي في زمن كورونا، كرهت كل تفاصيل الحَجر والمرض، من التقوقع إلى الانسلاخ عن أقرب الأشخاص. تساءلت وعاتبت القدر عن معنى الحياة من دون ضمّة أمي. تنبّهتُ إلى أني تعاملت مع الكثير من الأمور المهمّة على أنها مُسلَّم بها، إلى أن فوجئت بأن القدر يمكن أن يسحبها بنَفَس واحد. 

وعدتُ نفسي حينها بأنني سأعوّض أيام الحَجر، كما أنني سأستفيد من حياتي بشكل مختلف. هذه الوعود ما لبثت أن أخذت منحى آخر، مع انفجار 4 آب، حيث باتت الحياة نفسها سخيفة أمام جلالة الحدث. أخذ الأمر منحى مختلفاً جنح بي بشكلٍ قوي إلى مكان آخر، إلى مسارٍ آخر إلى حِمل آخر. تبدّلت الأولويات، وجدتُني مصابة بالذنب، ذنب البقاء على قيد الحياة، ربما. لا أعلم إن كان وقع التفجير ليبدو أخفّ لو أنه ألمّ بنا قبل شهور الحجر والتجفيف العاطفي..

أيام فأسابيع، وشهور، وبدأنا عدّ السنوات، والاحساس بالظلم يكبر وبالشرخ بين شخصَيَّ يكبر. 
أحداث بالمفرق مرّت في السنوات الأخيرة، بعضها شخصي وبعضها الآخر عام، ووجدتُني أتلطى خلف العام لأعلل بكائي على ما يخصني، حتى وصل الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، ففتح الجراح على مصراعيها، هو القدر أراد أن يُعطينا لمحة مسبقة عمّا كان سيحلّ بنا. 

تسيل الدموع على فيديوهات الضحايا، وتنهمر بشكل أكثر غزارة مع فيديوهات الناجين.
متى تحولتُ إلى منبع متدفق للدموع. أين ذهبت ضحكتي، وابتسامتي؟ متى ألمّ بي العمر هكذا فنال مني قسطاً؟

أبحث عن تلك المرأة التي كنتُها، أتوق إلى الابتسامة المجانية، إلى الضحكة الصاخبة، قبل انهيار البلد وقبل انفجار بيروت وقبل اغتيال رفيق الحريري وقبل زلزال تركيا وسوريا. أبحث عن تلك الطفلة التي كانت تروي مقتل والدها برومانسيته، بعيداً من السياسة، يوم ظنّت أن مقتله قدر، قبل أن تعي أنه قضية حق مهدور.. 

أشتاق إلى يوم كنت صحافية شقيّة، يوم كان قلمي لمحة اعتزاز وكبرياء، يوم كان للكلمة وزنها في صفحة الجريدة، قبل السوشيل ميديا وآفة الشهرة وعدد الاعجابات.. 

أتنقل بين صوري وأحن إليّ متنقلة بين تفاصيل أيامي، مستعرضة نفسي بفرح طفولي، قبل أن يتمكن مني الاحساس بالذنب إذا ما أمضيت وقتاً طبيعياً كالبشر الطبيعيين في بلاد غير طبيعية لا تسكنها الاّ الهموم.. 

أقف على ناصية العمر مُراقبة، أميل إلى السكوت، وكأن أي حديث يدور من حولي يتردد صداه في أودية أفكاري المثقلة بهموم، في كثير من الأحيان غير شخصية، ومواجع لست مسؤولة عنها، وبعض اللحظات والذكريات السعيدة. 

بديهيات الحياة كثيرة، وأكثرها بداهة الاستمتاع بها. لا شيء بديهياً في الشعور بالذنب اتجاه أن تحيا، أن تستمتع وأن تكمل حياتك بما يكفيك كمخزون لتستطيع تحمل الأحزان والمطبات الكثيرة التي تحملها الحياة.. لا شيء طبيعياً في أن ينفصل شخصك الآخر ليؤنب ويحاسب مَن يحاول على الأقل التماشي مع الواقع. 

لو أن دموعي ستعيد مفقوداً واحداً إلى ذويه، لنذرتُ حياتي للبكاء. ها أنا أقفُ على ناصية العمر، مكشوفة الظهر، إلاّ من كلمة أحملها وأمضي!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها