الثلاثاء 2023/01/03

آخر تحديث: 18:28 (بيروت)

لم يمت أحد منا هذه الليلة

الثلاثاء 2023/01/03
لم يمت أحد منا هذه الليلة
"موسيقى عَرَضية لحفلة رأس السنة" (ترودور غايزر)
increase حجم الخط decrease
لا أحب الأعياد، ولا الاحتفالات. لا أحب الضجيج. ولا الخمر الذي ينساب ليُنسي الاحتفال، أو ليضفي عليه أشياء برّاقة، تعِدُ بأن الوقت سيمرّ بطريقة ألطف.

لا أحب الزائف من الوقت. الوقت زائف أساساً. كيف نزّيفه بعد أكثر؟ ونعتقد بأننا نقتله، ونحن لا حيلة لنا في القبض عليه.

الاحتفالات هي مواعيد للصيد. يحاول البعض من خلالها أن يصطاد البعض الآخر. ويصطاد الوقت. بالهدايا نصطاد، كمن يريد أن يشتري موقفاً. بالتنمر نصطاد، كماذا نقدم من مأكل، ومشرب، وهدايا مغلّفة بأوراق لامعة نرميها كمن يرمي ذكرى أليمة. بالتحرش اللطيف. وكأن الاحتفالات تعطي ضوءاً أخضر للّمس، والهمس، والتقرب.

لا أحب الاحتفالات. ولا الأنوار التي نضيؤها، نحن الذين نحسب الكيلوغرامات كمن يحسب لحظات عمره.

لا أحب أن اجتمع بالعائلة. ليس لأنني لا أحب العائلة، بل لأنني لا أفهم الحب المفاجىء المرتبط بالصيد. العائلة تصطادنا. بنظرتها. بتوقعاتها. بالقرب الذي لم تمنحه لنا يوماً، سوى في حفلة الصيد هذه.

أنصاع غالباً، للمشاركة في القبض على الوقت، أنا التي تعشقه عشقاً، لأنه يقع خارج يدي، ورأسي، ومنزلي. منزلي، لا يدخل الوقت من نوافذه. يموت حين يقرع الباب. وأنا لا أفتح. ينتظر. يئن أحياناً. أخاف من صوته، فأشرع بتشغيل أسطوانة الأغاني.

الوقت يحب الأغاني. يضيع فيها، فقط إن دخلها. والوقت ينتظر عند بابي. يئن لأنني لا أريده هنا. فيموت تحت جذع شجرة الزنزلخت. وتمرّ قطتي فريدا، تبوّل عليه. لكني، في الاحتفالات العائلية الكبيرة، لا أملك أي قوة لردعه. يدخل مع الخالة والعمّة. مع قوارير الخمر. يدخل ويضحك ويجلس على كرسي الشرف. "أنا هنا لتقتلوني. حاولوا إن أردتم. ولن تستطيعوا إلي سبيلاً".

أراقب صحون الطعام. وعملية المضغ التي تصدر صوتاً كصوت ماكينات طحن اللحوم المقددة. يسكن الوقت الأفواه. وكأنه نوع من البهارات سيعلق بسقف الحلق. غالباً ما أشرب، كثيراً. في احتفالات الصيد تلك. ولا آكل شيئاً. الخمر ينسيني المكان. رغم كرهي له في تلك اللحظات. يجعل من الناس أشباح نفسها. أجمل بقليل. ألطف بعض الشيء. ممكن تحمّلها. أنظر إلى كأس الويسكي أمامي. أراقب الثلجتين فيه. تذوبان على مهل. الثلج أيضاً لا يحب الوقت. يصارعه. كان ماء وسيعود ماء. لكن الثلج لا يحب الكيمياء. هناك من لا يحلم بأن يعود من حيث أتى. أيحلم الوقت بالعودة الى ما كان عليه؟

يحاول أحد ما التحدث اليّ... ليقتل الوقت العالق بين وجهي ونظراته. أحاول التهرب بأن أجيب بجُمل بسيطة، منتهية، لا استمرار لها، فهي قائمة بنفسها. أحاول أن أرقص. يهرع أحد الأقرباء ليرقص معي. يلتصق بي قليلاً. آخذ نفساً عميقاً كي لا أقتله. استعدادي للقتل، في هكذا احتفالات، عالٍ جداً. فأنا على يقين بأنني في حفلة صيد. وعليّ أن أنتبه كي لا أصبح فريسة شيء، أو أحد.

يمكنني أن أقتل مَن فتَحَت الماء لكي تجلي بعض الصحون. يمكنني أن أقتل الأطفال الذين ما زلت لا أفهم وجودهم الفلسفي، في الحياة. وضرورة صراخهم. يمكنني أن أقتل نفسي. بكل أريحية. لكي انتهي من إعادة تشغيل أسطوانة كل سنة. لكي استريح من ملاحقة الوقت لي. من فراغ العائلة من العائلة.

أنتظر أن يذهب الجميع. أنتظر الصمت. أحب أن أشاهد المكان الذي عجّ بالصيادين، يفرغ من الجيف والرصاص. أراقب أرض المعركة. الكل خسر شيئاً. وترك كأسه مع مائها الباكي لأنه كان ثلجاً. أتنفس بقايا السيجار الكوبي الرخيص. أمد يدي نحو طبق الجبن الفرنسي. أنظر أمامي، فأجد الوقت ينظر اليّ بكثير من الجديّة. "أتشربين كأساً بعد؟". أوافق. ونجلس معاً نضحك على العمّة والخالة والأطفال. ونقبّل بعضنا بعضاً. لم يمت أي أحد منا، هذه الليلة. "ع قبال السنة الجاية"!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب