الخميس 2023/01/12

آخر تحديث: 16:59 (بيروت)

عندما اجتمعوا لرؤية أخي الميت..

الخميس 2023/01/12
عندما اجتمعوا لرؤية أخي الميت..
"الموت والحياة" لغوستاف كليمت
increase حجم الخط decrease
أحياناً، وبلا مناسبة، أدخل الشريط المصور لمجزرة "إسعاف المنصوري"(*)، أعيده مرات عديدة لأسترجع موقف أخي تجاه الموت بمَشاهده العنيفة. كانت طفلة وسط أجساد بلا حركة، أجساد تفوقها حجماً مغطاة بغبار ما تبقى من صواريخ العدو، وكانت أجساد نساء عائلتها حولها بعدما حاولت الهروب وتجنب مصير ضحايا تلك المجازر. كانوا أجساداً بلا أنين، وكانت وحدها تحاول، برأسها المتمايل من نافذة السيارة، أن تشتّت تركيزنا لتحيط بجسدها المضرّج بالدماء هول الدمار، وكأنها تطالبنا بحياتها ووجودها وأملها في النجاة، علّها تحافظ على ما تبقى من خصوصية نهاية عائلتها أمام عدو يحصي قتلاه بالموت الجماعي والمقابر المكتظة بشهدائها.

كان أخي قد جالَسني أثناء مشاهدتي لذلك الموت الحتمي، كان يشاركني في متابعة أخبار "عناقيد الغضب" بهدوئه المعتاد، وهو الذي أصرّ على إقفال التلفزيون ليخفّف عنّا عبء التفكير في موتنا. لم يكن أخي يريد سوى الابتعاد عن مشاهدة ذلك الألم، ولملمة مشاعرنا المرتجفة أمام أخبار الموت. أقفل أخي التلفزيون مردداً جُملة واحدة فقط: "ما بدي شوف الناس هي وعم تموت".

عندما زرت مكان غرق أخي، كان ذلك بعد سنوات من النكران والضياع. قصدت البحيرة وكأني سأجد جسده حيث استقرّ قبل انتشاله. صدّقت بأن جسد أخي لم يغادر مكانه الفعلي، ويمكن للآخرين أن يعتبروا كلامي هلوسة ما بعد الصدمة. اعتدت الذهاب الى هناك كلّما شعرت بأنّه ما زال حاضراً معي. لن يصدّقني أحد، لكني، في البحيرة، أستطيع أن أراه بوضوح، أن أرسم شكل جسده كما وصفه لنا مَن وجده في قعر البركة. بخيالي فقط أقترب نحوه وأتمدّد قربه وأدغدغ أذنيه كما كنا نفعل قبل موته. عند تلك المياه أختلي بجسده، من دون أن يشاركني فيه أحد كما حدث أثناء تشييعه. أجزم بأن الحاضرين كانوا متلهّفين لرؤية "الميت"، وليس أخي، فله صفة الميّت وتلك الصفة تبدو جاذبة، تستحضر أكبر عدد ممكن من الناس، فكانوا أكثر من زخّ المطر. تآلف الناس مع أجساد الموتى. المؤمنون منهم يعتبرون أن الساعات الأخيرة للميت يجب أن تكون صاخبة ومكثّفة، فتجد نفسك وسط حشد من الأجساد الحية المتسابقة نحو جسد غريب عنها، لكنه، بموته، أعطى معنىً أسمى لبقائها.

عندما أدخلوني لرؤية أخي الميت، كانت الغرفة ضيّقة لكثرة الناس حوله. كنت مذعورة، وحتى اليوم ما زلت خائفة. صدّني الجميع عندما حاولتُ جاهدة البقاء قربه، ومنعني أحدهم من لمس جسده، وبالفعل لم أودّع أخي ولم أستطع الجلوس الى جانبه لأخبره كم أنا وحيدة في الدفاع عن مساحتنا وعن أمّي المستبعدة التي لم ترغب في دفن صبيّها على عجل. جلّ ما كنت أريده من أخي الميت، وقتٌ إضافي، بعيداً من صراخ الناس مستهولي الحادثة. كنت أبحث عن يد أخي وسط الدخلاء، لأمسكها، كي أتماسك.

عندما عجز الغطاسون عن إنعاش جسده بعد انتشاله من المياه، كانت أمّي تقف قربهم، تنظر إلى أجساد مبلّلة تحاوط جثّة صبيّها، محاولة بالضغط على صدره، إسعافه واستعادة أنفاسه بعد ساعات من الغرق. لم يكن إنقاذه مقدّراً، ولم تكن أمّي محظوظة. أما أنا، فانتظرت وجهه ليطمئنّي. كانت جثته محاصرة، والجميع يتعامل معها على أنها "شيء" يستطيعون تمريره لبعضهم البعض، وكأنهم مدرّبون مسبقاً على التآخي مع الأجساد الميّتة بخفّة فارغين من المشاعر التي يفترض أن تحثّهم على الحذر والابتعاد لإفساح المجال لي ولأمي، لوداع يليق بأخي.

كان أخي دائم الإبتسام. نظرتُ الى وجهه، بين كل الوجوه التي حجبت رؤياه، وانتظرت تلك الإشارة لأحيا من جديد، لكنّ المشيّعين أعاقوا قدرتي على التحمّل، وأدركت أن ذلك الجسد المتجمّد أمامي لم يعد يخصّني وحدي. رغم أنها المرّة الأخيرة في لقاء مَن "يخصّك"، الا أنّك تتيقّن بأن العالم كله يجتمع لينفيك خارج دائرة ألمك، ليكسر صمت جسد ميت، بتقاليده وثرثرة أغرابه.

كلّما استرجعت تفاصيل ذلك النهار، تبيّن لي أن العزاء في مجتمعنا يعرّينا من أدبيات اللباقة في التعامل مع حزن الآخرين، فنتوهّم بأن وجودنا يخفّف عن المفجوع خسارته ويواسيه، ولا ندرك أن الحزن يستدرجنا الى الجنون أحياناً. ما عايشته في جنازة أخي، كان حفلة هياج جماعي وهوس الحاضرين بجسدٍ ميت. بعد جنازة أخي، أقسمت بأن لا أتكيّف مع ضجيج المتفرّجين على أجسادنا بعد موتنا، وكأن لهم وصاية تخزين تلك الأجساد في المقابر، وكلّما امتَلأت حفرة، وجدتَ بجانبها أخرى مهيّأة لاستقبال الجسد التالي.

مَن قال أني أريد أن أُحشر في تلك الحفرة؟ لم أكن تلك الفتاة التي تفقه تعاليم الدين، ولم أكن من المصلّين، فلا جدوى من الصلاة عليّ. عندما أستبق الحديث عن موتي، أتمنى أن أرحل بعيداً من تجمّع الناس. لا أريد للغرباء رؤية جسدي عارياً. لا أرغب في نساء، يمقتن وُشومي ويحرِّمنها، بملامسة جِلدي وتكفيره. أهاب ذلك الموقف قبل اختباره، أنا التي كنت منعزلة عن العالم لأني لم أُجارِه في جنازاته وتحسّس أجساد موتاه الراقدة في توابيته.

كيف للآخرين امتلاك هذه الجرأة والتمعّن في جسد ميت؟ لطالما نبّهني المشيّعون في جنازة أخي إلى شيء من التجبّر على الموت، والتجسّس على حرمة مَن فارق الحياة، استجابةً لسطوتهم على ما ليس مُلكاً لهم.

لو أن جسد أخي تبخّر في المياه التي قتلته.. ولم يجده أحد. لو أن أمي هي التي قفزت في تلك المياه، لتنتشله وتبقيه في أمانتها، كما فعلت طوال تربيتها له. علّمتنا أمي منذ صغرنا بأن لا نفترق. كانت تمسك يد أخي، فيمسك يدي هو الآخر. لكن غابَ عنها أن أجسادنا لن تلتحم، وكانت يد أخي سبّاقة إلى التخلّي.

لو كان أخي اليوم حاضراً معي، لكان أصرّ مجدداً على إقفال التلفزيون. لكان وافقني على عنادي بعدم المشاركة في جنازات الآخرين. لكان هذّب نفسه وامتنع عن رؤية وجوه موتانا الشاحبة. حين اجتمعَ الجميع للنظر الى جثة أخي من دون أي رأفة، كنت أنا أحاول الوصول اليه لأقول له: "أخبرهم يا أخي بأنك لا تهوى النظر الى الأجساد الميتة".
_______________

(*) في 13 نيسان 1996، وفي خضم عدوان نيسان الذي شنته إسرائيل على لبنان، قصفت طائرة تابعة للجيش الإسرائيلي سيارة إسعاف مدنية في قرية المنصوري، جنوبي لبنان، أدت إلى مقتل امرأتين و4 أطفال. 
   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها