السبت 2022/09/24

آخر تحديث: 13:40 (بيروت)

"خواتم السلطة": مُبهر.. محافظ.. وصائب سياسياً

السبت 2022/09/24
"خواتم السلطة": مُبهر.. محافظ.. وصائب سياسياً
increase حجم الخط decrease
بعد النجاح النقدي الهائل وبالأخص الجماهيري الذي حققته ثلاثية أفلام بيتر جاكسون "سيد الخواتم"، وإيرادات بلغت 3 مليارات دولار عبر شباك التذاكر وحده بين العامين 2001 و2003، قامت شركة "أمازون" بإخراج محفظتها السخية من أجل إنجاز مسلسل "خواتم السلطة" (The Rings of Power)، لتوجيه ضربة إلى منافستيها "نتفليكس" و"إتش بي أوه ماكس" المُراهنة بدورها أيضاً على مسلسلها "بيت التنين" كمقدمة (فلاش باك) لسلفه الأشهر "صراع العروش"، مثلما هو "خواتم السلطة" مقدمة لسلسلة الأفلام الشهيرة.


بميزانية قدرها 462 مليون دولار لـ8 حلقات (58 مليون لكل حلقة)، تضاف إليها 250 مليوناً سبق استثمارها في شراء الحقوق من ورثة الكاتب ج.ر.ر.تولكين، يعتبر هذا المسلسل، الذي أُكّد العمل على موسمه الثاني بالفعل ويُستهدف إنجاز ما لا يقل عن 5 مواسم منه، الأعلى كلفة في التاريخ التلفزيوني. لا عجب إذن أن الحلقتين الأوليين شوهدتا من قبل أكثر من 25 مليون مشاهد في اليوم الأول من إطلاق المسلسل. رقم قياسي، كما أعلنت "أمازون" بفخر.

عادة ما تصبح القصص الخيالية مثيرة للاهتمام فقط من أطرافها. عندما يتردد صدى النبوءات القديمة في رأس القارئ/المُشاهد، فيرغب بالذهاب إلى تلك الأراضي التي مازالت مرئية على خريطة مقطوعة حوافها. أو عندما أكّد لنا تولكين في "سيد الخواتم" أن قصته تحدث في "العصر الثالث". يُثار المرء بفضوله لمعرفة ماذا كان من أمر العصرين الأول والثاني؟ "الإجابات الموضحة ببذخ على مثل هذه الأسئلة يمكن رؤيتها في المسلسل الجديد، الذي رغم أنه يمكن مشاهدة حلقاته الخمس الأولى فقط حالياً، إلا أن نصف الموسم هذا يسمح بالحصول على بانوراما مناسبة للتقييم الأولي".


قبل آلاف السنين من الأحداث المسرودة في مغامرات "الهوبيت" و"سيد الخواتم"، في ما يسمّى بالعصر الثاني للأراضي الوسطى، حصلت "أمازون" على حقوق هذه الفترة الزمنية الخيالية فقط. ويرجع "خواتم السلطة" إلى أصول وجذور ميثولوجيا الجان والأقزام والمحاربين والبشر، وبالطبع الوحوش الأوركيين وقائدهم الشرير الأعظم ساورون، الذي سيستغرق بعض الوقت للظهور. ومن دون الاستناد إلى نموذج أدبي حقيقي، سُمح لفريق من المؤلفين بتطوير حبكة بشكل أو بآخر وفقاً لموتيفات تولكين، التي جاءت مُلخّصة في "سيد الخواتم" كخلفية أو كعصر ما قبل التاريخ للحكاية، ولكن كان عليهم أيضاً مراعاة العديد من القيود.

والنتيجة هي قصة منسوجة من خطوط حبكة بسيطة تتشابك بتقدّم الأحداث، تعمل وفقاً للأسلوب الدرامي التقليدي بنمط سردي وتصاعدي، لكنها تستحق المشاهدة. هذا أيضاً له علاقة بحقيقة أن عالم تولكين كان مفصّلاً للغاية ومذهلاً من الناحية البصرية. كذلك تُضمّن هنا ثلاث شخصيات من "سيد الخواتم"، وهي غالادريل وإلروند، أصغر سناً قليلاً هنا في خضم القتال، بمساعدة كل الشخصيات الطيبة في الأراضي الوسطي، ضد الشرّ المتجسّد في ساورون، الذي يمكن رؤيته كعملاق بعلو أمتار مع رداء مهترئ وسط حشد من الأقزام المغلوبين على أمرهم. أما إذا كان معجبو تولكين الحقيقيون سيقدّرون هذا التنويع التلفزيوني باعتباره تتمة جديرة بالعمل الخيالي الأشهر في التاريخ الأدبي، فهذا ما زال يتعيّن رؤيته. ورغم ذلك، كانت ردود الأفعل في وسائل التواصل الاجتماعي إيجابية حتى الآن.

في سلسلة أفلام الهوبيت (2012-2014)، انفصل المخرج بيتر جاكسون عن النموذج الأدبي قليلاً، وأدخل بعض الشخصيات النسائية الداعمة التي لم تكن موجودة في عمل تولكين. هذا هو الحال أيضاً في "خواتم السلطة"، حيث شخصيات من الجان والأقزام والهوبيت الذين ليسوا من بيض البشرة (خليط متنوع الأعراق). والعديد من الشخصيات النسائية، وأبرزها غالارديل (التي، بالمناسبة، من اختراع تولكين)، تمنح المسلسل أيضاً صبغة معاصرة وملامح صحوة (woke).

انتقاد هذا الجانب من الإنتاج باعتباره مصطنعاً أو مبتذلاً، ليس إلا قصر نظر. ففي الأخير، في العديد من الإبداعات الأدبية الفانتازية من منتصف القرن العشرين (من عظيموف إلى تولكين)، لا تكاد توجد أي شخصيات نسائية، إن وجدت على الإطلاق، فقط أبطال ذكور بِيض. من الجيد والمستحسن والمطلوب إجراء تكييفات واقتباسات معاصرة لهذه الموارد الأدبية.

افتتاحية المسلسل تأتي صورة طبق الأصل تقريباً عن ملحمة جاكسون، رغم أن النجمة الأسترالية كيت بلانشيت لم تعد تلعب دور الجنية غالادريل، بل الممثلة السويدية الصاعدة مورفيد كلارك في اختيار ملائم تماماً مع عصر وخطاب تمكين المرأة. تصبح بطلة القصة، والتي بالرغم من ذلك لا تتخلى أبداً عن كوراليتها وتهتم بعرض مِحن ومغامرات شخصيات متعددة. بالإضافة إلى بعض الألغاز (مثل الشخصية الغامضة التي تسقط حرفياً من السماء)، فإن أول حلقتين تعطي قليلاً من كل شيء: المعارك، وحطام السفن في وسط العواصف، واجتياز الموانع الثلجية، والمبارزات، والوحوش، والمداعبات الرومانسية. كل ذلك ببُعد ملحمي تغذّيه لقطات بانورامية وكادرات رائعة وموسيقى رنانة وجوقات غريغورية مهيبة.

يُشاهد المسلسل باهتمام وحتى في بعض المشاهد مع بعض الانبهار أمام مشهدية مصروف عليها، لكن هناك أيضاً بعض الإفراط البصري والبرودة العاطفية اللذين يقفان حائلاً أمام التورُّط العاطفي مع ما يعرضه المسلسل، فضلاً عن التماهي معه. وبطريقة ما، أصبحت الإنجازات المتعددة لبيتر جاكسون، والتي شجّعت شركة "أمازون" بالتأكيد على الاستثمار في هذا الكون، العقبة الرئيسية أمام التمتع الكامل بالمسلسل. لأن جاكسون أمهر من كل مخرجي المسلسل الجديد، ويحدث شيء مشابه في المقارنة بين طاقم الممثلين في السلسة الفيلمية الأصلية والموجودين في المسسل الجديد، خصوصاً مع افتقار الأخير لأي أداءات تمثيلية مميزة.

بالتالي، يظهر "خواتم السلطة" كمغلّف مغر للغاية، لكن لا مجال للمفاجأة حين فتح الهدية نفسها. يبقى الأمل في الأجزاء التالية، بعد أن يذهب المسلسل إلى عمق عالم الأراضي الوسطى والأراضي الجنوبية والممالك المختلفة، ويكشف الخصائص الرئيسية للشخصيات المركزية مثل ملك الجان غيل غلاد (بنيامين ووكر)، والحكيم إلروند (روبرت أرامايو)، الشابة نوري (ماركيلا كافيناغ)، الأمير القزم دورين الرابع (أوين آرثر)، المحارب أروندير (إسماعيل كروز كوردوفا) الذي يحب البشرية برونوين (نازانين بونيادي)، إلينديل (ليود إوينز)، وهالبراند (شارلي فيكرز)، وهذا الأخير ينشأ بينه وبين غلارديل بعض التقارب بمجرد تجاوزهما لكارثتهما البحرية، ما يعمّق علاقاتهما وقصصهما ودوافعهما حتى لا يكتفي المسلسل بصراعات متواضعة تُقدَّم كذريعة لربط تسلسل ملحمي بآخر.

ورغم ذلك، في "خواتم السلطة"، حتى إن كان تولكين مؤلفاً جزئياً، تظهر نظرته المحافظة للعالم. لأنه في عمل تولكين، فضلاً عن احتوائه على خطاب تمجيدي رجعي للحياة الريفية البسيطة، هناك أيضاً دائماً أشخاص جميلون، ومعظمهم من البيض، يذهبون إلى الشرق المظلم الذي مزقته الحرب للقتال ضد مخلوقات شبيهة بالوحوش تفتقر إلى أي شخصية، موجودة فقط لتُذبَح وتُباد مع احتفاظ محاربيها بالنزاهة والموقف الأخلاقي المتمثل في القتال من أجل الخير والنور. وفقاً لهذا التأسيس، يقف الأبطال الشُقر في ساحات معارك تصل فيها الدماء إلى الرُكَب، يؤرجحون سيوفهم في الدرع الوامض مراراً وتكراراً لتأكيد انتصار النور على الظلام.

حتى لو كانت ثلاثية تولكين، المنشورة في منتصف خمسينيات القرن الماضي والزاخرة بالمراجع المسيحية، تعتبر رواية مناهضة للفاشية لبعض الأجيال، حيث يحارب الأبطال الأخيار المشرقون الخطرَ المظلم (للفاشية؟)؛ فإن عمل تولكين بالكاد يجتاز العتبة اللازمة لإنجاز سرد تحرّري وفقاً لأدوات ومداخل النقد الحالي للعنصرية وخطابات الكراهية. وبذلك، يستوي المسلسل، أقله في خطابه المتفشي في حبكته وأحداثه وتكوين عوالمه، أمثولة مبسّطة ومحافظة - لكن مبهرة بصرياً - عن صراع أبدي بين الخير والشرّ، بين قوى النور وقوى الظلام. وغالباً ما تعتبر وجهات النظر العالمية هذه "مانوية" اليوم. مَن يتحدث بهذه الطريقة، حتى لو في رواياته الخيالية فقط، يسهل تصنيفه مروّجاً لنظريات المؤامرة.

صحيح، ثمة معركة حاسمة تنتظر الأبطال، كل الأبطال، وبالتأكيد تنتظر "أمازون" أيضاً. والأخيار يفوزون بالطبع. لكنهم لا يعيدون ولا يخلقون نظاماً عالمياً كاملاً ومستقراً. على العكس من ذلك، ينتصرون من غير قصد على أكثر من الشرّ، وبالتحديد على كل القوى السحرية القديمة التي تستعصي الآن على العقل البشري. هذه القوى السحرية هي "النور" الذي لا ينتصر في السرديات الفانتازية الأفضل على وجه التحديد، وإنما ينتشر في النهاية، أو ربما يجب أن يغيب عن أنظار الناس حتى ينطلقوا أخيراً في الظلام الأبدي للحداثة، بحيث يتعيّن على المرء الالتحام مع كل نور يصادفه، أو بعبارة أخرى إيجاد "التنوير".

تجربة الفقد هذه، التي سوف يئنّ المسلسل في ظلّها بالتأكيد لمدة ألفي أو ثلاثة آلاف سنة أخرى، هي بالضبط ما لا يتلاشى في الفانتازيات الجيدة، بل بالأحرى تخبرنا إياها. أقلّه عند حوافها، فقط، تصبح القصص الفانتازية مثيرة للاهتمام.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها