السبت 2022/09/17

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

ليل بلا أنياب النهار

السبت 2022/09/17
ليل بلا أنياب النهار
لوحة إدوارد هوبر: "نافذة ليلية"
increase حجم الخط decrease
المساء هو خريف اليوم وميلانكوليته. أما الليل فهو "ويك إند" اليوم، الفترة التي تلي ساعات دوام الحياة وضجيج استحقاقاتها.

أدخل "ويك إند" النهار بعد التأكد من أني لن أخرج منه إلا صباحًا، فأتجهز له بوتيرة روتينية ثابتة ومُحكمة، وبسرعة تسبق البطء الذي سيدوم طوال ساعات الليل. ولليل إضاءته وكنبته وأزياؤه ومزاجه... سينوغرافيا كاملة تضعني وتبقيني في أجوائه حتى الصباح.

أدخل الليل بوزن وأكاذيب أقل، بعد استهلاك كل الأكاذيب نهارًا، الأكاذيب وَقودي، أحرقها لتمضي الساعات. وساعات الليل هي احتفاء بانقضاء ساعات النهار. فأدخل الليل متحررة من وجهي وملامحي المستخدمَين في النهار، وأخلع عني ملابسه عند باب الليل. أقفل الباب بالمفتاح، أطفئ أنوار الخارج كرسالة للمتطفلين المحتملين، أمسح بقايا الماكياج، أبدل ملابسي بأخرى أقل، لا زر بنطلون يحصر بطني ولا حمّلة صدر تعصر ثديَي وتضغط على فقرات ظهري، لا حذاء يخنق أصابع قدميّ الجميلة، ولا احتمالات تعكر الساعات المقبلة.

أستلقي على الكنبة أمام التلفزيون وأفلامه المتخففة من أي مشاعر مُرهقة، مع التليفون والشاحن ومشروبات ومأكولات منوعة، مالحة وحلوة، فالليل لا يخضع لقانون النظام الغذائي النهاري. وأتحول شيئًا فشيئًا، فأصبح أسهل، وأكثر تسامحًا وتجاوبًا ولينًا لتلبية نداءات وتجارب اختيارية، بعدما أنهكني النهار وامتص كل طاقة حصانتي قسرًا.

أستحضر مع ساعات الليل، الأفكار والأفعال، المهم منها وغير المهم، كي أبقى مستيقظة أطول وقت ممكن منه. فكلما طال الليل، تأخر النهار الذي يليه، وكلما تأخر النهار، كنت في أمان من معظمكم، ومعظمكم في أمان مني.

والاستيقاظ ليلًا ليس أرقًا، بل هو اختيار. فالنوم لا يجلب متعة، لأن المتعة تكون فقط في ثواني الدخول إلى عالم النوم، وبعدها يكون النوم قصيراً جداً، مهما طال. فأنا نائمة حين أنام، غير متيقظة لمتعة النوم المزعومة. النوم قطار سريع نحو النهار وابتساماته الشاقة وإجاباته المكرهة. النوم ليس هربًا من الأرق حتى، لأني لن أعي زوال الأرق ولن أعيش فرح هذا الزوال وراحته، سأكون نائمة وقت الفرح! النوم يسرق فرحتي، ويسرق متعتي بانقضاء النهار، فأختار استيقاظ الليل.

أستحق الليل، فقد نجوتُ من نهار آخر. وفي ليلي، لا أحد يجرؤ على قطع أفكاري مهما كانت سخيفة. يقفل الليل خلفه باب التطفلات وطوارئ النهار التي تسرقني مني. في ليلي، لن يطلبني أحد، لن يسألني أحد. لن يسلب مني أحد استحقاقي لليل. لن أفعل في الليل شيئاً مما لا أريد فعله، من دون التخوف من أن يسقط من حسابي واجب ما. أُمضي الليل من دون أي إحساس بذنب احتمالات التقصير بما أفعل وما لا أفعل. فيصبح كل ما أفعله إضافة، وكل ما لا أفعله حقاً مكتسباً: لقد نجوتُ من نهار آخر.

أفقد أنيابي في الليل، ويصبح جلدي أنعم ورائحتي أشذى. ولا حاجة لإثبات أي شيء. لا قوتي ولا حتى ضعفي، ولا حاجة لي للمضي قدمًا. أنا في عطلة من كل السعي وراء الإنجازات وقلق عدم تحققها.

في الليل، لا أحد غيري. ومع هذا الغياب تحضر احتمالات الحضور الاختياري. حضور لا يستدعي ظهور الأنياب. لكن، مع اقتراب النهار الذي يلي الليل، تبدأ أنيابي بالظهور مجدداً لتحميني من عناء ساعاته.

لو كنتُ أنا أحدكم، لكنت استغلّيت لَيلي، لكنتُ استغليتني في الليل. ولتسنّت لكم حينها فرصة أن تتعرفوا عليّ فعلاً. قبل أن تظهر آثار الدم على أنيابي، إلا إذا كان خيار الأنياب مشتركًا ولأسباب نرغبها معًا. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها