الأحد 2022/08/07

آخر تحديث: 17:10 (بيروت)

سيل التقريع الدولي لا ينقذ اللبنانيين من براثن دولتهم

الأحد 2022/08/07
سيل التقريع الدولي لا ينقذ اللبنانيين من براثن دولتهم
increase حجم الخط decrease

تلقت الدولة اللبنانية طيلة فترة الانهيار، عشرات البيانات من منظمات حقوقية تفاوتت لهجتها بين التقريع والتأنيب والاتهام، لناحية الانهيار الاقتصادي أو تصاعد القمع أو عرقلة العدالة وغيرها، من دون نتيجة تذكر.

لم تحقق البيانات اي نتيجة، لأن السلطة، كما يرى معارضوها، "لا تبالي أصلاً بكل تلك المنظومة الحقوقية وما تنادي به من قيم"، و"تتعامل مع ما ينتج عنها باستخفاف" طالما أن المنظمات نفسها لا تملك سلطة حقيقية أو قدرة على التغيير على أرض الواقع.

وهذا الأسبوع دعت 11 منظمة حقوقية عالمية، مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إلى إصدار قرار يقضي بإنشاء بعثة لتقصي الحقائق بشأن انفجار مرفأ بيروت، "بغية تحديد مسؤولية الدولة والأفراد ودعم تحقيق العدالة للضحايا". ووصل توبيخ الطبقة السياسية في لبنان أيضاً حد تسمية الحكام بأسمائهم مع دعوة منظمة العفو الدولية "أمنستي" النواب، وتحديداً، رئيس مجلس النواب نبيه برّي، الى "تحمّل المسؤولية لإنهاء التطاول على النساء والكفّ عن تشجيع بيئة معادية للمرأة"، تعقيباً على الممارسات الذكورية بحق نائبات من قوى التغيير في المجلس النيابي.

بالطبع سيشعر اللبنانيون بأن بلدهم بات مضرباً للمثل في الرداءة بعدما كان يوماً مضرب المثل للاستقرار النادر في الشرق الأوسط المضطرب من حوله. لكن السلطة تتعامل بشكل مختلف تماماً. باستثناء بعض المجاملات الأدبية هنا أو هناك، فإن السلطة اللبنانية بأقطابها المختلفة، لا ترد أصلاً على البيانات المختلفة، إلا لنفيها والقول أنها أخبار كاذبة على سبيل المثال وتقديم رواية مختلفة تمثل سردية السلطة عما يجري من أحداث في البلد، وتتولى وسائل الاعلام نقل البيانات والبيانات المضادة، من غير اثبات أو دحض ما يأتي عن الطرفين.

وليست الدولة آخر من يحرص على الشعب اللبناني فحسب، بل إن المنظومة التي تربعت على عرش الدولة، متهمة بالتسبب بانهيارها. وتجلت التهمة في تقرير مستقل صدر عن الأمم المتحدة في 12 أيار/مايو الماضي، أكد أن الحكومة اللبنانية ومصرفها المركزي، ارتكبا انتهاكات لحقوق الإنسان عندما تسببا في إفقار الناس من خلال تدمير "اقتصاد البلاد بقسوة".

ووصف التقرير نفسه الأزمة بأنها "نتيجة لسياسات حكومية فاشلة"، فيما المسؤولون "لم يقروا إصلاحات حتى مع تدهور الوضع"، ليحكم على "جيل بأكمله بالفقر". وكان بالإمكان تخفيف وطأة الفقر رغم حصول الانهيار، لكن الدولة لم تستجب حتى لتوصيات وجهت اليها، بما فيها من جهات مانحة محتملة.

ففي 1 كانون الأول/ديسمبر 2020 دعا البنك الدولي لبنان إلى تشكيل حكومة تنكبّ على تنفيذ برنامج إصلاح شامل، لتقر خطة التعافي المالي في أيار/مايو 2022، وتدخل بعدها حكومة نجيب ميقاتي في إطار تصريف الأعمال، ما يعرقل التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

تسويف السلطة تطرق اليه البنك الدولي أيضاً في 1 حزيران/يونيو 2021. ووفق "تقرير مرصد الاقتصاد اللبناني-خريف 2020"، "يعاني لبنان من كساد اقتصادي حاد ومزمن، ولا تلوح في الأفق أي نقطة تحوّل واضحة"، فيما استجابة السلطات اللبنانية كانت "غير كافية إلى حد كبير".

وفي 25 كانون الثاني/يناير 2022، قال البنك الدولي مجدداً في تقرير بعنوان "الأزمة في لبنان: إنكار كبير في ظل حالة كساد متعمّد"، إلى أن الكساد المتعمّد في لبنان هو "من تدبير قيادات النخبة في البلاد التي تسيطر منذ وقت طويل على مقاليد الدولة وتستأثر بمنافعها الاقتصادية"، واصفاً الأزمة اللبنانية بأنها "واحدة من أشد ثلاث أزمات في العالم منذ خمسينيات القرن التاسع عشر. وباتت تُعرّض للخطر الاستقرار والسلم الاجتماعي في البلاد على المدى الطويل".

وليس الاستقرار وحده في خطر، بل صحة اللبنانيين كذلك. وتحت عنوان: "لبنان: استهتار الحكومة بإصلاح نظام دعم الأدوية ينتهك الحق في الصحة والحياة"، اعتبرت منظمة العفو الدولية "أمنستي" في 16 كانون الأول/ديسمبر 2021 أن "الأزمة الصحية أحدثتها الحكومة"، فرفع الدعم عن الأدوية من دون وجود إطار للحماية الاجتماعية "هو فعل من أفعال الاستهتار البالغ" ، فيما تقاعس الحكومة عن التعامل مع أزمة الدواء هو "أمر لا يُغتفر".

ويفترض بأي دولة تحترم شعبها أن تقوم بإجراءات ما من أجل إنقاذ البلد من الانهيار الحاصل. لكن الدولة اللنانية عمدت إلى ضبط الانفجار الاجتماعي المتوقع عبر القبضة الأمنية، ليتحول لبنان بسرعة قياسية إلى دولة بوليسية. وبحسب "أمنستي" في تقريرها الصادر بتاريخ 18 أيلول/سبتمبر 2020 "ووجهت الاحتجاجات السلمية إلى حد كبير، منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، من قبل الجيش اللبناني وقوات الأمن بالقمع وصولاً لاستخدام الذخيرة الحية والخرطوش" رغم أن "الاحتجاجات في جميع أنحاء لبنان كانت سلمية في معظمها".

وبين انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 و24 حزيران/يونيو 2020، تطرقت "أمنستي" بتقرير منفصل إلى قمع حرية التعبير، تناول استدعاء 75 فرداً إلى التحقيق، من بينهم 20 صحافياً، بناء على تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد السلطات. وجاءت الاستدعاءات من جهات أمنية "لا يقع في إطار صلاحياتها النظر في قضية حرية التعبير".

وتصاعدت وتيرة القمع، فوثقت "هيومن رايتس ووتش" في 5 شباط/فبراير 2020، انتهاكات تحت عنوان "المحاكم العسكرية في لبنان لا شأن لها في محاكمة المدنيين"، مطالبة البرلمان "بإقرار قانون يستثني المدنيين تماما من اختصاص القضاء العسكري". كما أن القمع بات يطال الفئات المهمشة في البلد أكثر من غيرها، وتحديداً أفراد مجتمع الميم.

وبالطبع، عمّق انفجار 4 آب/أغسطس 2020 من أزمات لبنان المختلفة، لكن بعد عامين من الكارثة التي أودت بحياة 217 ضحية وإصابة 7000 بجروح، مازالت العدالة معطلة. وأصدرت "هيومن رايتس ووتش" في 3 آب/أغسطس 2021، تقريرا تحت عنوان "أدلة تشير إلى تورط مسؤولين في انفجار بيروت"، معتبرة أن "العقوبات المستهدِفة والتحقيق الدولي هو السبيل الوحيد للعدالة"، بما أن "المشاكل البنيوية في النظام القانوني والسياسي اللبناني تسمح بتجنب المساءلة".

وعرض تقرير "دبحونا من جوا: تحقيق في انفجار بيروت"، أدلة "تُظهر بشكل كاسح أن انفجار مرفأ بيروت نتج عن أفعال كبار المسؤولين اللبنانيين وتقصيرهم، إذ لم يبلّغوا بدقة عن المخاطر التي تشكلها نيترات الأمونيوم"، التي انفجرت في المرفأ و"خزّنوا المواد عن سابق علم في ظروف غير آمنة، وتقاعسوا عن حماية الناس".

وفي 2 آب/أغسطس 2021، أصدرت منظمة العفو الدولية "أمنستي" تقريراً بعنوان "لبنان: بعد عام على انفجار بيروت المدمِّر، السلطات تعرقل مجرى العدالة بوقاحة"، حيث "تقاعست الحكومة اللبنانية على نحو مأساوي عن حماية أرواح شعبها، تماماً مثلما قصّرت لمدة طويلة للغاية في حماية الحقوق الاجتماعية الاقتصادية الأساسية. وهي من خلال الوقوف في وجه محاولات القاضي لاستدعاء المسؤولين السياسيين، وجّهت صفعة أخرى إلى الشعب اللبناني. ونظراً لحجم هذه المأساة، فمن المذهل أن نرى المدى الذي تستعد السلطات اللبنانية أن تذهب إليه لحماية نفسها من التحقيق".

وهذا العام، اتهمت 11 منظمة حقوقية في بيان مشترك، السلطات اللبنانية بأنها "عرقلت مراراً وتكراراً سير التحقيق في الانفجار بحماية السياسيين والمسؤولين المعنيين من الاستجواب والملاحقة القضائية والاعتقال". وقالت المنظمات ومن بينها "هيومن رايتس ووتش" و"امنستي" أنه بعد مرور عامين، لم يتقدم التحقيق المحلي "وما من بوادر تَقدّم تلوح في الأفق".

وسط كل ذلك، يندر إيجاد بيانات رسمية لبنانية حول الفقر، فمنظومة السلطة تخشى توثيق تقاعسها عن نصرة شعبها. وقبل أيام، علّق مسؤول أممي لوكالة "رويترز" عن حكام لبنان قائلاً: "لديهم شعور بالحصانة من العقاب، وهذه مشكلة كبيرة للغاية". لتبقى عبارة "دولتي فعلت هذا" وحدها شاهدة على الجريمة، بانتظار ترجمة قضائية باسم الشعب تطوي زمن الإفلات من المحاسبة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها