السبت 2022/08/13

آخر تحديث: 10:28 (بيروت)

"آيات شيطانية" وثقافة التغييب

السبت 2022/08/13
"آيات شيطانية" وثقافة التغييب
increase حجم الخط decrease
معظم الأشخاص المهللين لحادثة طعن الكاتب البريطاني سلمان رشدي في نيويورك بوصفه زنديقاً ومهرطقاً، لم يقرؤوا أصلاً روايته "آيات شيطانية" بل سمعوا بها فقط بسبب فتاوى هدر الدم التي لاحقته لعقود وتحوله في العالم إلى رمز مدافع عن حرية التعبير. وفي ذلك تلخيص لمشكلة جوهرية تتكرر منذ قرون وهي الاعتماد على المرجعيات الدينية والنصوص الشفهية المتواترة في الإسلام لبناء مواقف واتجاهات واتخاذ قرارات على كافة الأصعدة "ترضي الله" أو "تماثل السلف الصالح" وغير ذلك من العبارات التي تحط من قدرة الأفراد على التفكير بأنفسهم ما يجعلهم دائماً بحاجة للإرشاد.

لم تطبع الرواية أو تترجم للعربية، باستثناء نسخ غير رسمية تتواجد في زوايا الإنترنت من ترجمة أفراد حاولوا كسر الرقابة الرسمية في دول المنطقة. وهي مثل كتب كثيرة مماثلة تناقش مواضيع حساسة دينياً، بقيت أشبه بأسطورة يسمع بها الجميع ولا يعرف حقيقتها أحد. وحتى في الأوساط الأدبية والثقافية العربية يتم دائماً التقليل من أهميتها بالقول أنها ليست أهم أعمال رشدي وأنها نالت الشهرة بسبب فتاوى هدر الدم والتكفير وليس بسبب فرادتها الأدبية وأن رواية "أطفال منتصف الليل" مثلاً أهم منها، وغير ذلك من نقاشات تحاول قطعاً التنصل من مناقشة كل ما تحدثت عنه الرواية من تفاصيل مستمدة من التراث الإسلامي التي يتم تغييبها عن قصد عن النقاش العام، من حادثة الغرانيق إلى قصص مختلفة عن النبي محمد وزوجاته والشعراء المحيطين به وما إلى ذلك.

والرواية مهمة لأنها تناقش زوايا مغيبة في الإسلام. كيف يمكن لشخص أن يدعي أنه حر في اعتقاده إن كان يجهل أصلاً تفاصيل مهمة عن دينه ولا يناقشها من أجل اتخاذ قرار حقيقي بشأن تلك العقيدة المورثة ضمن العائلة؟ والإيمان هنا يتطلب التسليم أي التخلي عن العقل لصالح المشاعر والطقوس واليقين بأن ما يتم تلقينه كنصوص دينية هو صحيح حتماً. والدين نفسه يعيش على الجهل ويتغذى به وليس مفاجئاً أن تهميش تلك النقاشات الجدلية عن حوادث مذكورة في كتب التراث الإسلامي وتحريم الحديث فيها حتى بوصفها هرطقة.

وبعد عملية الطعن التي قام بها شخص لبناني يدعى هادي مطر، من أنصار حزب الله حسبما أفادت وسائل إعلام أميركية، كتب الكاتب الأميركي ستيفن كينغ في "تويتر" متسائلاً: "أي نوع من الوضيعين يطعن كاتباً؟" الجواب ببساطة هو شخص متدين. بالطبع سيتم تدوير خطاب الإسلاموفوبيا واحترام معتقدات الآخرين وغيرها من مصطلحات الصوابية السياسية، لخلق جدل مواز مثلما يحصل في كل حادثة مشابهة يكون فيها الإرهاب الإسلامي حاضراً، مثل جريمة قتل الأستاذ الفرنسي سامويل باتي في باريس العام 2020 أو الاعتداء على مجلة "شارلي إيبدو" وحتى في حالات محلية مثل وفاة شخصيات كالمفكر المصري سيد القمني قبل أشهر على سبيل المثال.

لكن كل ذلك الترقيع وتجميل المصطلحات ليس كافياً للتشويش على فكرة مضادة مفادها أن الإسلام، كعقيدة فكرية متزمتة، يشكل أزمة عالمية، خصوصاً أنه يشكل أساس السياسة ولبها في دول الشرق الأوسط الظلامية، حيث تشكل الشريعة أساس القوانين المحلية والدساتير الوطنية أولاً ويلعب رجال الدين دوراً قيادياً ومحورياً حتى في الدول المدعية للعلمانية ثانياً. وتستعمل السلطة بازدواجيتها الدينية – السياسية الخطاب الديني من أجل تقديم نفسها كحامية للدين من المؤامرة الخارجية وكحافظة للقيم والتقاليد في الشرق ضد العلمانية الغربية والليبرالية الحديثة. ومن هنا تعمل السلطة على المنع والحجب ليس فقط ضمن الميديا والإعلام والسينما بل أيضاً في ما يخص الكتب والأدب وتحاول التحكم بالسردية الثقافية والنقاش العام حتى في سن مبكرة عبر أدلجة التعليم في المدارس.

ومرة أخرى، انتشرت النوعية نفسها من العبارات غير الحاسمة، التي يبدو أصحابها وكأنهم يخشون من تبرير الفعل، فهم من جهة ضد الاعتداء على رشدي، وفي الوقت نفسه يعتبرون أن آياته الشيطانية "مستفزة" وبالتالي "من الطبيعي" الوصول إلى نتائج عنفية. يذكر هذا الخطاب بالمبررين للدكتاتوريات العربية في المنطقة، فبشار الأسد مجرم لكن وجود "الإرهابيين" يبرر قتل نصف مليون سوري، ومحمد بن سلمان دموي لكن جمال خاشقجي تحدث أكثر مما ينبغي ولم يمتلك رجاحة العقل الكافية للصمت والطاعة. هذا النوع من التفكير الانهزامي أسوأ بكثير من المبررين صراحة للأفعال الإجرامية، ويحيل بدوره إلى أزمة النفاق والكذب التي لا يمكن بهما الوصول إلى نتيجة حاسمة.

وسيكرر الأفراد العبارة التافهة بأن حرية الفرد تنتهي حيثما تبدأ حرية الآخرين، للقول أن رشدي استحق ما حصل له أولاً وللإشارة إلى أن آخرين سينالون نتيجة مشابهة جزاء تعديهم على حرية الآخرين! هذا المنطق الأعوج مخيف ليس لأنه يشرعن الإرهاب والعنف فقط بل لأنه أيضاً يقسم الحرية حصصاً بين الناس رغم أنها قيمة مطلقة وغير محدودة! والحرية لا تعني الإيمان بأي شيء يريده الفرد بقدر ما تعني أيضاً أن يقبل الأفراد أن يسخر الآخرون من أفكارهم ومعتقداتهم، كما أنها مطلقة باستثناء التحريض على العنف والكراهية ودعوات القتل والإرهاب، والتي تطال اليوم المثليين والنساء والأقليات والملحدين وغيرهم ممن يخرجون عن الإطار المحدد لهم من قبل المجتمع، وتحديداً في دول الشرق الأوسط.

وهنا يتم تمييع الموضوع دائماً، نحو الحديث عن سماحة الإسلام. بحيث يصبح الإرهابيون والمتطرفون لا يمثلون الدين الصحيح وخارجين عن الدين السمح، لكن هذه المقاربة تعيد للأذهان أن معظم الأعمال المتطرفة، التي يقوم بها أفراد غاضبون أو منظمات إرهابية مثل "داعش" و"القاعدة" تستند إلى نصوص دينية بحرفيتها ولا تأتي من اجتهادات شخصية. وهو أحد الأسباب التي تمنع الأزهر حتى اليوم من تكفير أفراد "داعش" واعتبارهم إرهابيين على سبيل المثال. أما في حالة الأفراد، فهم ليسوا بالضرورة من "الذئاب المنفردة" (Lone wolf) التي تتغذى على الدعاية الجهادية مباشرة.

وبخصوص حادثة طعن رشدي، كان مذهلاً قراءة التعليقات التي رغم ابتهاجها بنتيجة العملية كانت تتبرأ منها بوصفها "إرهاباً" وتنسبها إلى الشيعة بوصفهم غير مسلمين. بالطبع لا علاقة للحادثة بالصراع السني الشيعي لكن المرشد الإيراني السابق روح الله الخميني هو من أصدر فتوى هدر الدم بحق رشدي العام 1989. ومن المذهل قراءة التعليقات الحالية التي ترسم سياقاً مشوهاً يدفع فيه الأفراد عن أنفسهم تهمة التطرف ويلحقونها بخصومهم الأيدولوجيين، علماً أن الحالة المعاكسة أي اتهام الشيعة للسنة بالإرهاب كانت حاضرة في الحوادث التي كان المهاجم فيها سنياً. وكأن كل فئة تدعي تمثيل الإسلام الصحيح رغم أنهما تقومان بنفس الأفعال المروعة، لأن المشكلة مجدداً ليست في تفسير النصوص الدينية بقدر ما تكمن في جذور تلك النصوص.

وإذا كانت مشكلة الإسلام العنيف ترتبط عادة بدول الشرق الأوسط، وعائقاً امام الديموقراطية، فإنها اليوم باتت تهديداً للديموقراطيات الغربية، كما هو الحال في فرنسا. لأن هناك تضارباً في رؤية العقد الاجتماعي الذي يحكم علاقة الدولة بمواطنيها، وهي في الحالة الإسلامية مازالت مرتبطة بإسلام القرن السابع الذي يفصل العالم إلى أهل الإسلام وأهل الكفر، ولا يعترف بحقوق المواطنة للجميع مثلما هو الحال في الديموقراطيات الحديثة. ويجعل الديموقراطية كفراً وهرطقة لا أكثر. ويتوسع ذلك في "تويتر" لدى المبررين والمتعاطفين للقول بأن أي عمل إرهابي بما في ذلك طعن رشدي هو من صنع المخابرات الغربية لتشويه صورة الإسلام والدفع بأجندات سياسية وعسكرية ضده.

ولا أمل على ما يبدو في كسر الجدار السميك من المحرمات في منطقة شديدة التدين مثل الشرق الأوسط. وفيما كان ينظر لدور الإنترنت في المنطقة العربية بشكل مشابه لدور المطبعة في التنوير الأوروبي، بسبب توفير مساحات خارجة عن سيطرة السلطات القائمة سياسياً ودينياً، فإن ذلك بقي محدود الأثر إلى حد كبير. وتعاني كثير من المنصات من صعوبات تقنية مثل الحجب، فضلاً عن كونها منصات موصومة بالعار لكونها "ملحدة" على سبيل المثال، أو أنها تحتاج بحثاً مركزاً ومخصصاً وليست في الواجهة التي مازالت تسيطر عليها الحكومات سواء عبر الإعلام أو شراء أصوات المؤثرين وحتى الجيوش الإلكترونية والحسابات الوهمية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها