الأربعاء 2022/07/06

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

كأني عدت إلى البيت

الأربعاء 2022/07/06
كأني عدت إلى البيت
مزحة/تجهيز الصراف الآلي لـ"بنك اللولار" في بيروت.. شجباً لانهيار الليرة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ما إن جلست على المقعد بجانب السائق، حتى بدأ يدندن ما يشبه موّالاً. لا أدري لماذا ظننت أنني في واحدة من تلك الورطات التي يقحمنا فيها شوفيرية السرفيس حين يفرضون علينا، في ما يفرضون، آراءهم العامة والخاصة، وكذلك أصواتهم التي سنضطر لمدحها، وإلا.. لكن الشاب سرعان ما أزال الهاجس الطارئ، إذ انطلق يغني "ولَو" لوديع الصافي، بصوت لا يقل تمكناً عن مغني النوع المكرسين. ثم أنه لم يلجأ إلى فتح حديث. غنّى فقط، وكان أحياناً يميل برأسه ليخرجه من النافذة منتشياً بالغناء، وسط مهرجان الضوضاء البيروتي الدائم في الشوارع.

وصلت إلى حيث سأنزل، مع نهاية الأغنية ودردشة سريعة حول سببه في عدم الاحتراف وجوابه بأن وفاة أبيه الذي صادف يوم اختباره في "ذا فويس" كانت رسالة واضحة من السماء إليه. قلت له ما معناه أن رسائل السماء مطاطة، ويمكن اختيار ما يلائمك من تفسير لها، ونزلت.

هكذا، فكرت، استقبلني لبنان بعد خمس سنوات على آخر عودة طويلة. استقبلني بودّ، في فرن الشباك. نجوت من الاستقبال الرسمي للمغتربين الذين صادفوا معين شريف يتلو بياناً ملحناً في حب الكليشيهات. نجوت من هذه الصفة الشنيعة، مغترب، والتي لها وقع الشتيمة في أذني. على الأرجح بسبب لبننتها القائمة على نمط تعاط نافر يقارِن فيه المسافر البلد الذي يأتي منه، بالبلد الذي ولد فيه، فلا تعجبه الأرصفة، ولا الازدحام، ولا الفوضى، ولا انقطاع الكهرباء والماء، ولا حتى عدم التزام اللبنانيين بالصف، كل وأي صف، وهذا ليس صحيحاً بالطبع، لكنه متداوَل.

ثم أن المغترب، في الصورة المحفوظة عنه، يأتي مستشرقاً، خائفاً من كونه البقرة الحلوب التي يطمع فيها الجميع. ومعين شريف في المطار، واللافتات التي ارتفعت في الطرق للتأهيل بالطلّة، ستزيد في ريبة المغترب كما في ريبة المقيم. فالأول لن يرى في هذا التأهيل التافه إلا لعاب السلطة السائل على الدولارات التي جلبها معه، بينما سيسأل المقيم نفسه عن هذا التمييز في المعاملة عند السلطة، بين ابن الستّ المسافر، وابن الجارية العاجز حتى الآن عن السفر.

فمَن يستحق الترحيب اليومي، كلما أشرقت الشمس على لبنان، ليس كيس الدولارات الآتي من بعيد، بل هذا الذي يبدو كمن يجترح معجزة وهو يخوض يومه من لحظة فتحه الباب حتى وصوله إلى عمله. نادلة شابة في مقهى، شاب على دراجة توصيل للمنازل، أستاذ في ثانوية.. إلى آخر هذه اللائحة الطويلة من البطلات والأبطال الحقيقيين الذين استطاعوا تدبر أمر بقائهم على الرغم من كل ما فعلوه بهم. وفعلوه هي صيغة الجمع الغائب التي نستخدمها للدلالة عليهم كلهم، ونلحقها بواحدة من شتائمنا اللبنانية التي يتميز بها قاموسنا الغني.

ما فعلوه! وما أفعله مذ جئت هو أنني أنتبه لحقدي الدفين، وشتائمي الداخلية التي لا تفرق شيئاً عن تلك التي ينفجر بها المواطن حين يواجه كاميرا وسؤال. أحقد عليهم حين يخبرني قريبي الموظف أن الطبيب طلب ثمن حقنة لقاح لطفله ستين دولاراً. وأحقد عليهم حين تخبرني صديقة عما يشبه رحلة طريق الحرير لتأمين بديل لدواء سرطان لزوجها، غير "الأصلي" ذي السعر الذي يصل إلى 11 ألف دولار، فتصل إلى إيران والهند، وتظل خائفة من انقطاع الدواء. أحقد عليهم بينما شاب عشريني يخبرني، من دون ما يمهد لكلامه، وبما يَشي بحجم أزمته، أنه نادم ندم عمره لأنه لم ينتظر ساعات في الصف ليستحصل على جواز سفر، والآن بات مستحيلاً عليه أن يحصل على  واحد جديد، لأن هناك أزمة مبهمة لا أحد يعرف أو يفهم سببها، تتعلق بإصدار جوازات السفر. وهي تضاف بتلقائية إلى سلسلة الأزمات التي لا قدرة للبنانيين على السؤال فيها أو الاستفسار عنها، كالمعضلات الأخرى، التي -هيا بنا نعدّها- كلها قدرية: انهيار العملة، السطو على أموال المودعين، السطو على مدخرات الناس وأعمارها هكذا، بعيون مفتوحة على وقاحة لا قعر لها.. الانفجار.. وقس على ذلك مما بات يضجر اللبنانيون من تكراره عليهم، لكنهم متروكون فيه، كالمتروك في محيط هائج.

أحقد عليهم إذ أفكر أن اللبنانيين لا يستحقون هذا. لا أجد تبريراً لتعويمهم في الانتخابات، هم أنفسهم، أقوى من أي مرة قبل. لكن أعود وأقول أن ليس من حقي هذا اللوم الجماعي. لا يستحق اللبنانيون أن يكونوا إلى هذه الدرجة قدريين. "هم" أسوأ من أسوأ كارثة طبيعية، لكنهم ليسوا كارثة طبيعية. إنهم هنا، معروفون ومحددون بالأسماء والصفات ومن شيمهم التفاخر بالحقارة والقذارة. كلن يعني كلن، أليس كذلك؟ ماذا ينفعني وأنا أراني أنساق الآن، وأنا أكتب، إلى شتمهم، كما يشتم المواطن إذ يرى كاميرا؟..

لا شيء ينفعني طبعاً. باقٍ مؤقتاً وبما يكفي لأن أسكت الحنين وأغادر وأعود "مغترباً" أتابع الانهيار المديد من بعد، من دون أي لحظة ارتياح لأني نجوت منه. قلت لصديقتي أنني، حين أعود إلى بيروت، أكون كمن عدت إلى البيت في آخر النهار. لا ألاحظ فارقاً عن آخر مرة، ولا يصدمني فيها شيء. استمتع، أكثر ما استمتع، باستخدامي السهل للغة في الدكاكين والسرفيسات. أبالغ حتى في الـ"حبيب قلبي" و"يسلموا"، لأن وقتاً طويلاً سيمر قبل أن أستعيدها بتلقائيتها وفي مكانها. هذه تفاصيل تافهة، لكنها تعنيني أكثر من رؤية معين شريف يغني، لأني لا أتوقع منه أن ينتظرني كلما عدت إلى بيتي ليرحب بي مع فرقة ودف وطبل.

أعود إلى بيتي، بكل هذا الحب الذي أحمله في قلبي له، وأقول أنني لن أندب ولن أكون غراباً ناعقاً. لكنه الآن، هذا البيت، أكثر حزناً من أي مرة مضت. أتمنى أن يكون مجرد انطباع اغترابي غبي وتافه، وأظن في الآن نفسه أنه ليس كذلك. لم يكن يوماً كما هو الآن، البيت الذي أحب أن أسميه بيتي، فاقداً كل أمانه، وفاقداً كل إيمانه بخلاص، مطلق خلاص، غير الحلم بالاستحصال على جواز سفر. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها