السبت 2022/07/02

آخر تحديث: 14:54 (بيروت)

كايت بوش...عودة برّاقة من ثمانينات الـ"بوب" والقضايا

السبت 2022/07/02
كايت بوش...عودة برّاقة من ثمانينات الـ"بوب" والقضايا
increase حجم الخط decrease
قبل شهر واحد فقط كان اسم كايت بوش غير معروف على نطاق واسع، لأن المغنية البريطانية التي نشطت في الثمانينيات وحققت شهرة لا بأس بها بفضل أغنيات تمزج بين الروك والبوب، لم تستمر في النشاط الفني على غرار الأسماء الأنجح من تلك الحقبة، وبقيت الموسيقى التي قدمتها محصورة في فترة زمنية محددة لا أكثر، لكن عرض أغنيتها "Running Up That Hill" ضمن حبكة الموسم الرابع من سلسلة الرعب الشهيرة "Stranger Things" في "نتفليكس" منذ حزيران/يونيو الماضي، قدمها لمئات ملايين الأفراد في وقت واحد، ودفع بها إلى صدارة لوائح الأغاني حول العالم في مشهد نادر ومبهر في آن معاً.

ولطالما نُظر إلى الثمانينيات على أنها حقبة ازدهار موسيقية بسبب أسماء غيرت معنى الموسيقى إلى الأبد، مثل مايكل جاكسون ومادونا، صاحبَي الأثر الكبير في أجيال موسيقية بعدهما، وحتى في المنطقة العربية كانت سميرة سعيد على سبيل المثال تعمل على موسيقاها الخاصة بشكل حرر الموسيقى من سطوة التقليدي. ويحيل البحث عن موسيقى الثمانينيات دائماً إلى أغان عبقرية لأسماء مغمورة ربما لم تستمر أو لم تقدم المستوى نفسه في أغنيات أخرى. وتشكل بوش (63 عاماً) مثالاً على ذلك، فأرشيفها يتراوح في الجودة ربما، وتبرز أغنيات عديدة لها مثل "Baboushka" لكنها تبقى في المجمل بعيدة من الأغاني الأشهر في ذلك الزمن، ما يجعلها دائماً بعيدة كن الذاكرة ومن التداول إلا لمن ينقب بنفسه عن تلك الجواهر المنسية.


موسيقى الحقب الزمنية تبث عادة في المسلسلات والأفلام التي تتحدث عن هذه الحقبة أو تلك، لكن الميديا تميل إلى استذكار الموسيقى الأكثر رواجاً، وهو ما لم يقم به "ستراينجر ثينغس" لأنه مسلسل خارج عن المألوف في كل ما يقدمه. كما أن تلك الموسيقى تبث عادة في حفلات الهالووين في حال كانت مرتبطة بثيمة زمنية أو في الملاهي الليلية التي تخصص حفلات لذاكرة عقود معينة، لكن استخدام الموسيقى في تلك الحالات يكون عادة في الخلفية من دون أن يدرك الأفراد من يغني غالباً، لأن الموسيقى ليست أساساً بقدر ما هي عنصر داعم لتفعيل الثيمة الزمنية واستحضار جو من المرح.

في "ستراينجر ثينغس"، كانت الأغنية جزءاً من الحبكة والحوارات، وبُثت مقاطع طويلة منها تحديداً في الحلقة الرابعة المؤثرة منه، وارتبطت بالتالي بذاكرة عشاق المسلسل الذي يحطم أرقام المشاهدة في "نتفليكس" حول العالم، بتلك اللقطات العاطفية وأحالت بالتالي إلى نوع نادر من المشاركة الجمعية لتجربة عابرة للزمن. وبات سماع الأغنية في حد ذاته مشغلاً لصور عقلية من المسلسل لدى مئات الملايين الذين دفعوا بالأغنية إلى صدارة اللوائح الموسيقية، وأخرج صاحبتها من الظل نحو أضواء الشهرة لتصدر بيانات نادرة ولقاءات صحافية معها للمرة الأولى منذ عقود ربما!

والحال أن "نتفليكس" بالطبع عقدت صفقة مالية ما لشراء حقوق الملكية الفكرية للأغنية من أجل بثها. وكانت النكتة السائدة في مواقع التواصل أن كايت بوش هي من كان يجب أن يدفع لـ"نتفليكس" من أجل ذلك الاستخدام. طبعاً هناك علاقة منفعة متبادلة بين الطرفين واحترام متبادل لمعنى الملكية الفكرية. لكن النتيجة بالطبع تفوق كل التوقعات المسبقة، وتظهر الأثر الذي تمتلكه "نتفليكس" في مسلسلاتها الأكثر رواجاً بسبب وصولها إلى مئات الملايين من الأفراد حول الكوكب في وقت واحد.


كما أن الأغنية تظهر مدى هشاشة موسيقى البوب المعاصرة مع أسماء لا تحقق أثراً طويل الأمد، رغم الانتشار اللحظي الواسع، مثل تايلور سويفت أو أريانا غراندي وأديل وهاري ستايلز وإد شيران. ومن المذهل حقاً أن الفترة الحالية شهدت تغييراً في المزاج الموسيقي العام مع صعود الراب كنمط موسيقي سائد لا يتصدر فقط مواقع التواصل، بل يتحدى القيم الاجتماعية والدينية السائدة، مثلما كانت موسيقى البوب تفعل لعقود، وتبرز هنا أسماء مثل "ليل ناس" على سبيل المثال، الذي لم يغنّ فقط مع مادونا قبل سنوات، بل يتحدى مفاهيم الجندرة والميول الجنسية أيضاً بشكل كانت موسيقى الراب بعيدة منه.

ومع سماع "Running Up That Hill" يمكن تذكر معنى موسيقى البوب الجيدة مجدداً، حيث الزخم العاطفي والموسيقى الملحمية والوقت الطويل لبناء أغنيات تقدم تجربة متكاملة، بعكس الموسيقى الحالية التي باتت مدتها أقصر بكثير، لدرجة عدم تمايزها عن بعضها البعض إلا في اللازمة الموسيقية (Hook) التي تبنى الأغاني حالياً حولها من أجل تقديمها في مواقع التواصل كـ"ميمز"، وتحقيق الانتشار، وذلك محزن حقاً.

وتكرر مقولة دائماً بأن الموسيقى السائدة تعبّر عن الجيل الجديد ثقافياً وسياسياً. فوجود تايلور سويفت البعيدة من الجدل والسياسة والنشاط الاجتماعي، والاكتفاء بأغاني مبنية على تجارب شديدة الشخصية فقط، يعبّر عن جيل مختلف عن جيل الثمانينيات والتسعينيات ومطلع الألفية، عندما كانت موسيقى البوب الأكثر نجاحاً تضج بالرسائل السياسية والاجتماعية بتناولها مواضيع غير مريحة بصرياً وعلى صعيد الكلمات ايضاً، من العنصرية وسطوة الدين (مادونا، مايكل جاكسون) إلى المثلية الجنسية (كريستينا أغيليرا) وحرية الجسد (بريتني سبيرز) وغيرها. وكل ذلك مفقود تماماً في موسيقى البوب المعاصرة التي تعبّر عن جيل لا يكترث بالسياسة كما يظهر بوضوح في أعداد الأفراد الذين يمتنعون عن المشاركة في الانتخابات في الدول الديموقراطية والذين يسجلون أرقاماً قياسية عاماً بعد عام.

وفيما خلقت السوشال ميديا ما يعرف بـ"غرف الصدى" (Echo chambers) التي يعيش فيها الأفراد في عالم مغلق يضخم من قناعاتهم الشخصية وتجاربهم المحدودة فقط، فإن انتشار موسيقى البوب الحالية التي تشبه ذلك الوصف تماماً، يصبح منطقياً. ويصبح التساؤل بالتالي عمن يسمع كايت بوش اليوم، ومن يتابع "ستراينجر ثينغس" أصلاً، لأن المسلسل رغم شهرته مبني بطريقة عبقرية لجذب جيل الألفية تحديداً للمشاهدة، من أفراد ولدوا في الثمانينيات والتسعينيات وتشكل أجواء المسلسل جزءاً من ذاكرتهم الجمعية، وإعطائهم حيزاً من الخيال يشعرون فيه بالانتماء إلى زمن كان بإمكانهم فيه أن يصبحوا أبطالاً على غرار الأطفال الذين يلعبون بطولة العمل، قبل أن تتحطم تلك الأحلام طبعاً بفعل الواقع والسيستم الاقتصادي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها