الخميس 2022/06/09

آخر تحديث: 17:29 (بيروت)

جيل "الأوضة".. أو "الهاسلر" اللبناني

الخميس 2022/06/09
جيل "الأوضة".. أو "الهاسلر" اللبناني
increase حجم الخط decrease
في جلسةٍ تعارفية كانت تجمع بعض الأشخاص الذين لا يعرف بعضهم البعض، أو أنهم على معرفة سطحية، دار الحديث المعتاد حول ما يفعله كلّ منا. وحين وصل الدور الى أحدهم، أطرق في التفكير وكأنه نسيَ مجال عمله، ثم قال: "أتريدون النسخة المقتضبة أم الإجابة كاملةً؟"، ثمّ أردف من دون انتظار الرد: "هاسلر".

ولمّا وجد البعض صعوبة في فهم ما يعنيه، أدرك أنه لا مفر من التوضيح: "حسناً.. إنني موسيقي في الدرجة الأولى. دي جي في نهاية الأسبوع، ومتعدّد الوظائف في وسط الأسبوع. أغزو الأسواق الشعبية وأجمع منها ما استطعت من غنائم لإعادة بيعها عبر الإنترنت. أكتب أوراقاً بحثية نيابة عن طلاب جامعيين لديهم ما يكفي من المال والكسل لعدم إنجاز فروضهم الدراسية. أمنتج فيديوهات وأصمّم موسيقى تصويرية". وحين ظننا أنه انتهى من تعداد وظائفه، سارع للقول: "آآآه، كدت أنسى. أحياناً أجالس حيوانات أليفة عند اضطرار أصحابها لمغادرة المدينة. ومؤخراً كلّفني أحد الأصدقاء بتصميم الديكور الداخلي لمنزله، ومنذ ذلك الحين تأتيني عروض في هذا المجال".

بعدما أنهى هذا العرض المطوّل، تنفسنا الصعداء. وعلّق أحدهم: "لا بدّ أنك تجني الكثير من المال". فأجاب: "لا، بالكاد أطفو فوق سطح الماء".

في حديثهم عن حياتهم المهنية، يزداد بين أبناء جيلنا استخدام وصف "هاسلر"، كبديل من التصنيفات التقليدية للوظيفة الأحادية، واضحة المعالم ومضمونة النتائج. يصعب إيجاد ترجمة عربية تفي هذا التعبير حقه، خصوصاً أن استخدامه في السياق الراهن قد غيّر معناه. ففي حين كان يُستخدم في السابق للدلالة على الذين يجنون قوتهم بطرق غير نظامية ويتخذون من الاحتيال والنصب مهنةً لهم، بات اليوم مرادفاً لتعدّد المهن والوظائف، واكتسب دلالات إيجابية عبر اقترانه بإتيقيا العمل النشيط ومتعدّد المجالات.

لكن إن كانت ثقافة "الهاسلر" في أميركا تشير الى شباب جيل الألفية ذوي الابتكار، الذين استغنوا عن العمل المؤسساتي ووظيفة "من التاسعة إلى الخامسة" من أجل العمل لصالح أنفسهم وتأسيس "ستارت-أب"، أو استخدام الموارد الرقمية لدرّ الدخل... فإنها في لبنان، وغيره من بلدان الإقتصادات المنهارة، ليست خياراً بقدر ما هي حاجة قسرية.

"الهاسلر" هو "الحربوق" باللبناني. هو ذلك الذي يفعل كل شيء، ولا شيء. الذي يغتنم كل فرصة لجني المال، أينما حلّت، ومهما كانت. يشتري منتجات مستهلكة -لا سيما ثياب "الفينتاج"- بأسعار ضئيلة ويعيد بيعها عبر الإنترنت. يترجم نصاً أو يكتب مقالاً لمنصة أو يصمّم "لوغو" لمُنتج ما. يعزف الغيتار في حفلة عيد ميلاد طفل في "الماكدونالدز"، أو يكتب أغنية لعرسٍ ما. وإن امتلك الجرأة أو "الكود" الأخلاقي، فقد يُنشئ/تُنشئ صفحة "أونلي فانز" لبيع صور الجسد أو القدمَين لقاء المال.

ورغم تعدّد مهاراتهم، يشعر راشدون كثر، في منتصف عقدهم الرابع، أنهم عمّال مأجورون لا يملكون مهنة فعلية، يطوفون على هامش المهن ويقتاتون من فضلاتها. يشعرون أيضاً أن القطار قد فاتهم من أجل شق مسار مهني يثمر استقراراً وأماناً، وإن بعد حين. يقيمون مقارنات بينهم وبين أهلهم الذين كانوا في سنّهم هذه يملكون شقة ويعيلون أسرةً، في حين أن أقصى طموحات أبنائهم هي العثور على غرفة لائقة في بيت مشترك والاحتفاظ بها لأكثر من شهر. "نحن جيل الأوضة"، يقول لي صديق بنبرةٍ ساخرة، محاولاً إخفاء ما في قلبه من مرارة.

يمضي صديقي هذا معظم أيامه في غرفته، أمام شاشة الكومبيوتر، متابعاً تقلبات سوق العملات الرقمية. يحلم بتحقيق الثراء الفوري على غرار أحد اصدقائه الذي كان قد استثمر مؤخراً بعض مئات الدولارات، فتحوّلت في غضون أشهر قليلة إلى عشرات الآلاف. إنها أمله الوحيد للخروج من غرفته الضيقة وواقعه الأضيق. لكن، منذ دخوله عالم العملات الرقمية، وهي في هبوط مستمر، ومعها كل حظوظه لتحقيق قفزة نوعية في حياته.

تبوح لي صديقة أخرى بشعورها بالفشل لعدم قدرتها على تأمين وظيفة "حقيقية"، رغم تعدّد شهاداتها. أحاول اقناعها بأن المشكلة ليست فيها، بقدر ما هي في الاقتصاد العالمي. لكن كلانا يعلم أن هذه الحجة لا تثني مشاعر العجز والهزيمة.

لأسلوب الحياة هذا جوانب مغرية بالطبع، فهو يتيح الفرصة للخروج من سطوة المؤسسات وسلطة المدير ورب العمل. كما أنه يسمح بحرية الحركة، ولا يُلزم صاحبه بدوامٍ أو مكان عمل. في الانترنت، مئات الإعلانات التي تعد بجني المال بطرق سهلة وسريعة، من دون امتلاك شهادات أو مؤهلات، ومن دون الحاجة الى الخروج من المنزل حتى. بعض المقالات يصف هذا الشكل من العمل بمفردة "ركوب الأمواج". تدعوك الى تصوّر نفسك في وسط المحيط. تنتظر موجة لكي تشرع بالتجذيف، وقد تشعر في البداية بأنك تترنح على سطح المياه.. مجرّد نقطة صغيرة تتقاذفها الأمواج. لكنك ما إن تلتقط موجة وتصعد على لوحك، حتى تبدأ بالتحليق.. إنه التعريف العصري للنجاح.

النجاح إذن مستبعد، ليس فقط بالنسبة لمن لا يجيد الركمجة، بل أيضاً لمن يخشى المياه والسباحة، وهؤلاء كثر. ليست المعادلة التقليدية المتمثلةفي "الدراسة + العمل الجادّ" نافعة بعد الآن. لم يعد يكفي أن تتسلق سلّم النجاح درجة درجة، بل عليك الآن أن تحلّق، أن تبتلع الأدراج، أن تتقن ركوب الأمواج والرياح، أن تُخرج من تحت إبطك خدعاً سحرية، كالتنبؤ باللحظة المثالية لشراء العملات الرقمية، أو التحوّل عبر فيديو واحد الى مؤثر يجني أموالاً خيالية من استعراض حياته في السوشال ميديا.. مهما كانت هذه الفرص محدودة.

لذلك يشعر كثر منّا اليوم أنهم يغرقون، أن الأمواج تصفعهم من كلّ صوب وهم عاجزون عن إلتقاط أنفاسهم. وحين يظنّون أنهم تمكّنوا أخيراً من امتطاء موجة تحملهم الى برّ الأمان، فعاجلاً أم آجلاً سيظهر لهم حوت ضخم يذكّرهم بضآلتهم وتفاهة محاولاتهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها