الإثنين 2022/06/27

آخر تحديث: 17:53 (بيروت)

رقصتُ حينما رقَصَت أمي بعصا الممسحة

الإثنين 2022/06/27
رقصتُ حينما رقَصَت أمي بعصا الممسحة
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
كان الرقص، وما زال، بالنسبة إلي، إحدى وسائل النجاة من قبح هذا العالم. أرقص "البلدي"، لأستعين بمصطلح أرساه صديقي ألكسندر. أتوه في الإيقاع: الطبلة، الدف... تقاسيم لا أفقه عنها شيئاً، سوى أن جسدي يعرفها من تلقاء نفسه.

فجسدي كائن مستقل، يستقي معرفته من حيث لا أدري. أراقبه يتمايل، وأبتسم. ابتسم لحريته، مني. ومن مكاني وزماني. يستقل عني، ليعود إليّ، ساخراً من استغرابي. عرف جسدي، حتى من قبل أن أولد، كيف يتمايل. ولماذا. فرحه يشهق شهقاً، لا يتكرر بفعل التكرار، وليد لحظة ووليد لاوعيٍ جماعي، يرسم لي رموزه، أنا التي لا أفقه في الرقص شيئاً.

كنت في الرابعة من عمري. حين صُعقت بالإيقاع للمرة الأولى.
أمي تستعد لمَسح الأرض: سطل التمسيح. "قشّاطة". ولكي يكتمل المشهد، تجلسني على "الدريسوار"، لكي يتسنى لها أن تنظف الأرض من دون أن أربكها بطفولتي.
أذكر أن قدميّ لم تلامسا الأرض. أضحك. للعلو.
تدير أمي "الكاسيت". يصدح صوت مايا يزبك... "حبيبي يا عيني".
تتمايل أمي. لم أكن قد رأيتها يوماً تتمايل. لم أشهد على فرح كفرح أمي وهي تتمايل. تأخذ عصا الممسحة، تستبدل بها عصا الرقص. وترقص... وقلبي يضرب على قفصي الصدري وكأنه سينخلع من مكانه. أراقبها. أراقب فعل الرقص هذا، كطقس مقدس. إن لم يكن صلاة، فهو صلاة. ترقص أمي. وترقص معها قدماي اللتان لا تلامسان الأرض. وصرت أوقع الطعام على الأرض، لكي تقوم أمي، لتمسح، ونعيش سوية طقس الرقص، ولكي يقفز قلبي، وتفرح هي.

منذ ذلك اليوم، وأنا أعوم بالرقص. وجسدي يهرب مني إلي. أرقص في كل الأمكنة، الممكنة وغير الممكنة: في الطريق. في السوبرماركت. في البيت. في المسرح. فالرقص أسلوب عيش، فلسفة فطرية تعود بي إلى عصور مضت، حيث لم يكن هناك سوى الإيقاع.

اتصلت بي، ذات مرة، صديقة عزيزة، أرادت أن تفشي سراً. أخبرتني بأنها كانت في المستشفى، في حالة حرجة. وفي ليلة، أتيتها في الحلم. مددتُ يدي، وأخذت يدها، ورحنا، معاً، نرقص في الشوارع. قال أن الفرح الذي شعرت به، ساعدها في تخطي مصابها.

أحلم غالباً بأنني ارقص. وبأن هناك "ريتا" أخرى، تنظر إلي في المرآة. أمد يدي، وآخذ بيدها، أحملها ونرقص معاً، والأرض تحت أقدامنا تصبح، رويداً رويداً، أرضا من قطن وعسل.

في ليلة، كنت أتبضع في سوبرماركت قرب منزلي، رحت أرقص لأنهم أذاعوا أغنية يرفض جسدي أن يصدق بأنه في مكان عام مكتظ بالناس، وأن عليه مراعاة الآداب العامة. فراح يرقص. وحين وصلتُ في آخر المطاف الى الصندوق لأدفع ما عليّ، اقترب مني رجل ستّيني، وقال: "أرجو ان تعذري تطفلي. لكنت لم أستطع كبت ما عليّ قوله لك. لقد رأيتك ترقصين، منذ قليل. وقد اجتاحني فرح عظيم. إسمحي لي بأن أشكرك. الفرح المجاني الذي لا غاية له سوى ذاته، لم يعد في متناولنا جميعاً". لم أعرف كيف أجيبه. ابتسمت. وقفز قلبي في صدري، كما كان يقفز يوم كانت أمي ترقص.

إنه الفرح. المعدي. الذي يفوق كل أفراح العالم. الفرح الذي وحدنا، نحن النساء، نعرف سرّه. نحن راقصات الأفراح والمآتم. راقصات السحر وتقديس القمر. نحن المحتفلات بالإيقاع الذي هو جسدنا، أولاً. إلى أن نرقص، جميعاً، يوماً ما، يبقى الحق، كل حق، وكل الحق، منتقصاً.

أجسادنا أفعال رقص أزلي. لا تُعلّب بقوالب إعلامية بروباغندية، تولد خطاباً، وخطاباً معاكساً، لتجعل من جسدنا، قضية رأي عام، لمن يشتري. لكن المرأة التي ترقص، في مجتمعنا، ليست على ما يرام. هذا إذا استطاعت للرقص سبيلاً. حين يتمكن جسدها من استقلاليته عنها، عنهم، سنصبح على ما يرام. وسنعيد المقدس من الجسد وإليه. وسنرقص معاً. في الشوارع والأزقة. فالرقص فعلٌ منفرد جامع. حميم وعام. ومطلق. والفرح، حق.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب