الأحد 2022/05/15

آخر تحديث: 13:37 (بيروت)

إليكِ مضى التين والزيتون والمسيح يا شيرين

الأحد 2022/05/15
إليكِ مضى التين والزيتون والمسيح يا شيرين
لن يُسقطوا نعشها (أ ب)
increase حجم الخط decrease
مال نعشها المحمول على أكتاف الرجال. الرجال الرجال حقاً، بلا ذكورية بحب الأخ لأخته، لأمه. مال النعش ومعه مالت القلوب، قلوبنا.. لن يلمس الأرض. لن يسقط. بالرغم من هراوات جنود الاحتلال وحقدهم، لن يسقط. كما في الحروب، حين يلتقط المحارب الراية من رفيقه لحظة مقتله، كي تبقى عالية، هكذا كان نعشها يوم تشييعها، هكذا كانت ابنتهم، عالية، أعلى من إسرائيل، من الكيان العنصري المقيت.

إنهم يعرفون أكثر منا. الفلسطينيون يعرفون متى يصير وجه طيب كوجه شيرين رمزاً وأيقونة. يعرفون أنهم إذ يحاربون، يقاتلون عدوهم بالرموز، بالمفتاح والكوفية وشجرة الزيتون أمام الدار والتطريز على الثوب والقصيدة وشاعرها والتهويدة والأغنية والنشيد وأسماء القرى والمدن والمخيم والطفل والأسير... والشهيدة والشهيد، وهذا الخيط الممتد من الدم وورق الورد، منذ مثل هذا اليوم قبل 74 سنة وحتى مَيَلان النعش وتدافع الشبان لصَونه وضمّه كأنه نفَسهم الأخير، كأنه أمهم، كأنه فلسطين. إنهم يعرفون.

في هذا كثير من الشجن في اللغة، ولا مفر من الشجن. هذه امرأة فلسطينية، تقوم بعملها، واجبها. شيرين التي لم تكن تريد أن تصير رمزاً، ولا أيقونة. كانت تمارس عملها. لم تندفع إلى الرصاصة، بل العكس. لكنها، كصحافية فلسطينية، كانت تعلم أنها تحت خطر مضاعف. فالخبر الفلسطيني يومي وعتيق، عتق الظلم اليومي للفلسطينيين، وعتق الاعتداءات التي لا تنقطع، إن من الدولة العنصرية أو من مستوطنيها المتطرفين، أولئك الذين استغلوا تشييع صحافية فلسطينية ليغزوا كالجرذان مبنى في الخليل ويحتلوه. الاعتداءات التي تبدأ بمنع شابة صنعت من طبقات حجابها الثلاث، ألوان علم فلسطين، ولا تنتهي عند ما رأيناه في آخر حرب على غزة.

وهي، ومعها كل صحافية وصحافي فلسطيني، ومسعف وممرض وطبيبة، كل ناشط وناشطة إنسانيَين في وقت الحرب، كل فلسطيني، كلهم تحت خطر مضاعف. فالحقد الذي يحمله العسكري الإسرائيلي، من أدنى رتبة إلى أدناها، حقد مؤسساتي- ديني، حقد منظم ومدروس وموجه ضد هؤلاء الذين ذنبهم أنهم، بعكس الهنود الحمر، لم يفنوا. لم يختفوا عن وجه الأرض، وظلوا يخرجون عليهم، مرة كفدائيين، ومرة كأطفال تمزقت أطرافهم وفغرت أفواههم على سؤالهم عن سبب وأدهم أحياء، ومرة على شكل محكوم بالسجن أكثر من 800 سنة، أكثر من عمر نوح، وهو يبتسم ويرفع ساعدَيه المكبلَين بالأصفاد، ويرسم بإصبعيه شعار النصر، ومرة على شكل أم جبر وشاح، التي كانت تتبنى الأسرى غير الفلسطينيين في معتقلات الاحتلال حتى صارت أمّاً لأمّة برمتها. أم جبر التي أبكتني وهي تقول: "أنا أم، والإسرائيلية أم، وخلينا نشوف مين فينا نفسها أطول.. وآخرة فلسطين، يمّا، لأصحابها". ومرة على وجه شيرين، يود الله لو يحضن خدَّيها الداميَين براحتي يديه، يقول لها إغفري لهم يا ابنتي،إاغفري لهم، إنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.

لكنهم يعرفون. يعرفون شرهم. يعرفون شرهم الأبدي المقيم. يعرفون كيف يتسللون خلف خوذتها، خلف ما تبقـى من عمرها، خلف هويتها، خلف تاريخها وحاضرها ومستقبلها. لكنهم لن يعرفوا كيف يخترقون خشب نعشها، لأن قلوباً دونها قلوب دونها قلوب دونها قلوب ستتلقى الظلم والرصاص عن قلب شيرين، ستخذلهم، ستردهم مهزومين عن قلبها الذي، وإن توقف عن النبض، لن ينطفئ ولن يموت. سيزهر كما أزهر ياسمين عينيها، كما زيتون ابتسامتها وبرتقاله.

شيرين هي فلسطين وهي شهيدة حكايتها. يقتلني أن أراها لا تستطيع الرد على إسرائيل إلا بموتها، مصلوبةً، برتقالة حزينة على شجرة في يافا. لكنها سارت على الأكتاف سير المسيح على المياه. وقد حملت نعشها فلسطينُ كلها، من النهر إلى البحر، ومن البحر إلى النهر بكتها، ومن النهر إلى البحر أعادتها إلى ترابها وإلى قصتها المديدة، وطوبتها وردة دائمة التفتح وشجرة دائمة الاخضرار ومدناًَ لا تندثر وقدساًَ لا تموت ومسجداً لا يسكت له آذان وكنيسة لا يُقمع لها جرس ولا يُغلق محراب، وامرأة ترتفع وترتفع فلا ترقى إليها رصاصة ولا يسقط لها نعش ولا تحج إلى ابتسامتها إلا العيون والأكباد والأفئدة والآمال.

يكفينا هذا، يكفينا أن يختم هذا القمر فصله الأخير شهيداً. يكفي فلسطين، سيدتنا على الأرض كما سمّاها شاعرها، أن قمراً أبديّ الاستدارة سيظل يضيء فوق فلسطين، ويضيء وجوه ناسها وأحلام أطفالهم.

إليك مضى التين والزيتون يا شيرين، وطور سنين، والمسيح مضى إليك والماء والهواء وشجر البرتقال. إليك مضى تراب فلسطين، كل ترابها.. هنيئاً بك هذا التراب يا شيرين حضنك الأول، حضنك الأخير. وستزهرين كما وعدتنا القصائد والأغاني والكتب المقدسة والأساطير.
ستزهرين يا شيرين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها