الجمعة 2022/03/25

آخر تحديث: 13:55 (بيروت)

بين الشارع وماكينة الإليزيه.. مَن يرسم صورة ماكرون؟

الجمعة 2022/03/25
بين الشارع وماكينة الإليزيه.. مَن يرسم صورة ماكرون؟
ولعه بالدعاية التي أعطاها الأولوية، أدى أحياناً إلى نتائج عكسية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لم يبدأ التداول بإسم من أصبح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في الإعلام المحلي، إلا في العام 2014 عند توليه وزارة الاقتصاد، وقبل هذا التاريخ كان شخصية مجهولة بالنسبة للشارع الفرنسي. وكانت الانتخابات الرئاسية الأخيرة أول استحقاق يخوضه في حياته، بخلاف كثير من السياسيين الفرنسيين الذين واظبوا طوال سنوات على تكوين حيثية محلية، إلى جانب مراكمة خبرة برلمانية وشغل مناصب وزارية تمهد لهم خوض "الاستحقاق الأم".

انحصرت دعاية ماكرون الانتخابية في كونه مرشحاً وسطياً من خارج الاصطفافات الحزبية التقليدية، ساعياً إلى تجاوز ثنائية اليمين واليسار وإلى إرساء أعراف جديدة للممارسة السياسية. قطف ثمار تلك الدعاية مستفيداً من حالة من الإحباط التي أصابت الشارع الفرنسي من حكومات اليمين واليسار.

على خط مواز، تضافرت عوامل أخرى مهّدت طريقه للرئاسة: تضعضع الحزب الاشتراكي، فضائح فرنسوا فيون، تموضع الوسطيين خلفه وتأهل مرشحة اليمين المتطرف إلى الدور الثاني. لكن سرعان ما برز التناقض بين الشعارات الانتخابية والواقع السياسي، لدرجة يمكن معها القول أن الدعاية التي اعتمدها تحولت إلى لُغم في درب ولايته.

ما طرحه ماكرون كان على نحو كبير من الجذرية ويصعب تحقيقه بين ليلة وضحاها، لكنه خاطب الناخبين موحياً بأن وعوده قريبة المنال، ففشل في فرض نفسه بديلاً فعلياً عن اليمين واليسار، كما أن سياسته الاقتصادية دفعت إلى تصنيفه على يمين الخريطة السياسية.

والأكثر من ذلك، أن الحزب الذي أسسه جمَع منشقين عن الحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريين، لكن سرعان ما انقسم الحزب المذكور إلى جناحين: يمين ويسار. بدا واضحاً عجز الرئيس الشاب عن استيعاب هذا التنوع مع ترجيح كفة اليمينيين على حساب اليساريين، ما دفع بالرأي العام للتساؤل: كيف له أن يخلق معادلة تجمع الفرنسيين من حوله وقد فشل في جمع عائلته السياسية وجعلها تبدو متماسكة؟

أخفق ماكرون كذلك في إحداث انقلاب على صعيد الممارسة السياسية مع توالى فضائح المقربين منه، أبرزها فضيحة حارسه الشخصي الكسندر بينالا.

من جانب آخر، عكست إدارته لعدد من الملفات تعويلاً مبالغاً فيه على الصورة الإعلامية. على سبيل المثال، حرص على تقديم وجوه برلمانية جديدة تطبيقاً لتعهده بضخ دماء جديدة، لتضم كتلته نواباً جدداً بنسبة 90% اختيروا بناء على سيرتهم الذاتية. 

اعتبر ماكرون الزخم الاعلامي الذي طبع حملته الرئاسية كافياً للامساك بالسلطة، ناسياً أو متناسياً افتقاده إلى تنظيم سياسي متجذر قادر على تصدير شخصيات ذات ثقل، ما أعطى انطباعاً بأنه لا يقيم وزناً للعمل التشريعي. وتعزز هذا الانطباع حين ظهر افتقاد النواب الجدد للخبرة السياسية بخلاف نواب المعارضة المخضرمين. سلوك عكس خفة سياسية بعدما تحولت آلية الترشيح إلى ما يشبه مباراة التوظيف، حتى ترسخت قناعة لدى الرأي العام الفرنسي أن رئيسهم يسعى لاحتكار كل السلطات ولهذا السبب كان نوابه من "الهواة".

كشف هذا عن قصر نظر سياسي أو أقله ثقة كبيرة في النفس، ما خلق هوة بين ماكرون والشارع. واتضح قصور سياسته الاعلامية التي بناها خلال الحملة الانتخابية، بعدما تبين، في بعض المحطات، افتقاده للحنكة وبُعد النظر السياسيين. وليست أزمة السترات الصُّفر إلا الدليل الأبرز على تلك الهوة، حيث أخطأ ماكرون ودائرته الضيقة التقدير في قرار زيادة أسعار المحروقات ولم يستشرفوا تبعات هذا القرار على سكان المناطق الريفية الذين يعتمدون على سياراتهم الخاصة لضَعف النقل العام في مناطقهم.

لكن عدداً من النواب رؤساء البلديات المخضرمين سياسياً، والموالين للرئيس الفرنسي، سارعوا إلى ثنيه عن هذا القرار، خبرتهم واحتكاكهم بالشارع جعلتهم يستبقون انفجار الشارع. نصائح لم يقم لها أي وزن في حينها. 

حتى سياسة ماكرون الخارجية لم تكن بعيدة عن تلك الأجواء وأظهرت تسرعاً في إطلاق الوعود ورغبة في خطف الأضواء الإعلامية. ومنذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 نشط الإعلام الفرنسي في تغطيته للحدث اللبناني، وعليه لم يكن الشارع الفرنسي غافلاً عن الأسباب التي مهدت لانهيار "بلد الأرز". وبعد انفجار مرفأ بيروت حرص ماكرون على إعطاء دبلوماسيته نكهة مختلفة عن أسلافه. دبلوماسية قوامها وضع السلطة اللبنانية أمام مسؤولياتها.  لم يخطئ في تشخيصه، لكن رغبته في التقاط اللحظة حتى يسطع إعلامياً، وسعيه إلى تسجيل نقاط بشكل سريع وبأي ثمن، أدى إلى التلاعب به من قبل السياسيين اللبنانيين، ليفشل في تحقيق أي اختراق، وفقاً لصحافيين فرنسيين.

كذلك الحال حيال الملف الجزائري الشائك، كما علاقة باريس بالأنظمة الديكتاتورية. في كل مرة أوحى بنهج مختلف محققاً صدمة إعلامية، قبل أن ينصاع إلى قواعد اللعبة التي تحكمها الواقعية السياسية، ما هز صورته مراراً. ومن المعروف أن سياسة الرئيس الخارجية رافعة للداخل، والفشل الدبلوماسي مرادف لخسارة نقاط في الداخل.

في المحصلة، لم يلمس الفرنسيون ما وُعدوا به من تحول في الحياة السياسة، وهذه نتيجة طبيعية لتضخيم دعاية ماكرون الانتخابية وبعض انفصالها عن الواقع، فأضحت شعاراته الوسطية ورفعه للواء الحداثة مثاراً للتساؤلات والتشكيك. بذلك، خرجت الأمور عن السيطرة وأصبح الشارع مَن يملي صورة الرئيس الاعلامية، لا ماكينة الإليزيه. 

رغم ذلك كله، تمكن ماكرون مؤخراً من تخطي هذه المطبات والعودة إلى أداء دور وسطي مستفيداً من عاملَين اثنين. الأول إدارته لجائحة كورونا التي أبعدت عنه جزئياً صورة الرئيس اليميني. فصحيح أن الحكومة الفرنسية بدت متخبطة وصدرت عنها قرارات متناقضة عند بداية الجائحة، لكن لجوءها إلى الاستدانة لدعم المنشآت الاقتصادية حال دون إفلاس الشركات وسمح للعاملين بتقاضي رواتبهم الشهرية بانتظام، وجنّب البلاد انهياراً اقتصادياً. وعززت هذه السياسة التي اصطلح على تسميتها إعلاميا بـ"أياً يكن الثمن" صورة ماكرون الوسطية المرنة غير المتشبثة بالليبرالية. 

العامل الثاني كان الغزو الروسي لأوكرانيا الذي أتاح لماكرون التفافاً شعبياً من حوله وهي مسألة طبيعية في زمن الأزمات والتهديدات، خصوصاً أن ماكرون لم يدّخر جهداً للحؤول دون اندلاع الحرب ما أظهره بلباس المعتدل المسالم.

ويجب القول أن ماكرون ليس بالرئيس الساذج غير المدرك لواقع الحال. لكن ولعه بالدعاية التي أعطاها الأولوية، ظناً أنها كافية لاستلاب الشارع، أدى إلى نتائج عكسية في الكثير من الأحيان، قبل أن ينجح في ترميم هذه الصورة، جزئياً، بعدما هبت رياح كورونا وأوكرانيا لصالحه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها