الأحد 2022/02/06

آخر تحديث: 01:11 (بيروت)

من بذرة.. إلى كرة حب هائلة

الأحد 2022/02/06
من بذرة.. إلى كرة حب هائلة
increase حجم الخط decrease
تقول جين فوندا، من بين كثيراتٍ وكثيرين، إن الصداقة بين النساء تختلف عن الصداقة بين الرجال. وعلى لسانَي بطلتيها، تقول دوريس ليسينغ، إن الصداقة بين النساء تشكّل "قوّةً هائلةً قادرةً على تفكيك هياكل الأبوية". أما علم النفس فيقول إن النقاط التي تجمع الصداقة بين النساء، والصداقة بين الرجال، تفوق بكثير، عدداً وأهميّةً، النقاط التي تختلفان فيها. لكنه يؤكّد في الوقت نفسه أن ثمة اختلافاتٍ تسمح ببعض التعميم بين الجنسين في طريقة إقامة كلّ منهما للصداقات مع الجنس المماثل، ومن بين هذه الاختلافات نظريةٌ خلصت إليها دراساتٌ عديدة بأن الصداقة بين النساء أكثر هشاشةً من الصداقة بين الرجال.

لم أفكّر صراحةً في الأمر يوماً ولم أعطِه أيّ أهميّة تُذكر، ذلك أنني سرعان ما اتّخذت لنفسي، في مرحلةٍ مبكرةٍ من حياتي، قناعاتٍ من مثل أن الجنس أو النوع الاجتماعي لا يبرّران بأيّ شكلٍ من الأشكال أيّ اختلافاتٍ خارج الجسد، والمعاني التي نعطيها نحن لتلك الاختلافات. وعليه، لم أسمح لنفسي حتى بالتفكير في تعليب صداقاتي ومفاعيلها عليّ بين مذكّرٍ ومؤنّث، فالصداقة لا جسد لها، وإن كانت الكلمة مؤنّثةً، فالتأنيث مجازيّ فقط ولا يحمل تبريراتٍ أو تعليلاتٍ واضحة.

لكن في الواقع، توالت في حياتي صديقاتٌ مقرّباتٌ كثيراتٌ. صديقتي الأولى، التي ما زلت أذكرها رغم أننا لم نلتقِ يوماً كانت نتاج مبادرةٍ لتفعيل التواصل الثقافي مع فرنسا يبدو أنها نجحت بدليل أن "نويمي لاسّال" بقيت في ذهني كلّ هذا الزمن. تبادلنا الرسائل وقتها، وأرسلت لي صورتها، وكنّا طفلتين، فاستفاضت مخيّلتي حينها في بناء صداقةٍ افتراضيّةٍ متينةٍ في زمنٍ لم تكن اللّغة قد اتّسعت بعد لكلّ تطوّرات العالم الافتراضيّ. أعتقد أن البعثة العلمانيّة يومها فرضت علينا اختيار صداقاتٍ متلائمةٍ جندرياً، في محاولةٍ ربما للمواءمة بين ثقافتينا العربية والفرنسية.

دامت صداقتي الأولى هذه، خمس رسائل ربما، وصورة واحدة، وبعض الخيالات. لكنّها رغم ذلك تركت فيّ كمّاً من التساؤلات عن الجغرافيا والمسافات، والواقع والخيال، واللّغة والجندر.
في البدء إذن، كانت الصداقة بين الفتيات فكرة.

صداقتي الثانية دامت وولّدت صداقةً أخرى دامت أيضاً إلى يومنا هذا. صديقتا عمرٍ تشاركت معهما الأنوريكسيا والبوليميا والسجائر الأولى وحبّ القهوة وأحاديث لا تنتهي. هاتان سأحبّهما إلى الأبد، فالرابط بيننا عميقٌ عمقَ الصدمات الأولى وانفجار الهورمونات في أجسام المراهقات وصعقة الأمومة الأولى وغيرها الكثير. كان التواصل الأوّل بيننا رسالة أيضاً، وجّهتها لي صديقتي الطفلة يومها وقالت لي فيها إنها تحبّني. كم كانت لطيفة تلك الرسالة وكم كنّا وما زلنا بحاجةٍِ إلى الحبّ.
وهكذا رمت صديقتي تلك بذرة الحبّ الأولى فنبتت.

أما صداقتي الثالثة، فانتهت بصفعةٍ وجّهتها أختي البطلة إلى وجه الصديقة، فابتسمتُ أنا من كلّ قلبي. كيف تجرّأت تلك الشابة الصغيرة على ضربي؟ وهل كانت تعتقد ألّا أخت لي تدافع عني حين أُضرَب؟ لكنّ صداقتنا تلك ما لبثت أن تمتّنت بعد الضرب المتبادل وتحديد موازين القوى (والقوى الوسيطة على وجه التحديد). وصارت لنا مع الوقت حياة موازية لحياتنا العادية، نهرب فيها من المدرسة مرّاتٍ، ونتمشّى في شوارع البطركيّة ونتعرّف إلى بيروت الأصليّة بحلّاقيها ومدارسها الأخرى وشبابها المراهق. ثم افترقنا، وصارت الواحدة منّا تعني للأخرى كل تلك الذكريات وعمق تأثيرها.
تجذّرت البذرة إذن. شقّت طريقها في الأرض، "كزدرت" في أحياء التراب، تعثّرت، لكنّها تجذّرت.

الصداقة الرابعة تكوّنت لحظة رأيت تلميذةً جديدةً معنا في الصفّ. كان شعرها مميّزاً للغاية، أشقر كثيفاً، وكانت القادمة الجديدة التي لا تعرف أحداً بيننا نحن الزملاء منذ سنوات. بدت لطيفةً فتوجّهت إليها وحدّثتها. توالت سنوات الدراسة وظللنا صديقتين. كنّا نتبادل التليفونات دائماً بعد المدرسة. أيّامها أيضاً، كان هاتف المنزل لعبتنا، "نتلفن" منه لأصدقائنا، وأيضاً لأرقام لا نعرفها ونخترع أقوالاً وأصواتاً عبر الهاتف تجعلنا نقلب على ظهرنا من الضحك. كنت أزورها دائماً، وحين نظّمتُ أوّل حفلةٍ لي، أعارتني بنطلون "باغي" من خزانتها. كما أنها حين أحبّت، أرادت لي أن أحبّ أيضاً، وحاولت أن تقرّب بيني وبين شابٍ في المدرسة تبادلتُ معه اتصالنا الهاتفي الأوّل ثم أخبرني أنه ما زال يحبّ فتاةً تركته. كان موقفاً مضحكاً ما برح يجلب الابتسامة إلى شفتي. المهمّ أنها حاولت، وأرادت مشاركتي الإعصار الذي كان يعصف داخلها. أحببتها كثيراً وما زلت أحبّها، وإن افترقنا وأصبحت علاقتنا محدودةً بتعليقاتٍ في فايسبوك هنا وهناك.
ارتوت بذرة الصداقة في ذاك الحين لتبرعم كرةَ حبّ مدوّرةً صغيرة.

أذكر فترةً كنّا خلالها أربع صديقات يتناوبن في صداقاتهنّ التي غالباً ما تأتي كثنائيّات، فتصبح إحدانا الصديقة المقرّبة لأخرى، فتتقارب الاثنتان الأخريان. ثم يدور الدولاب وتتوالى التوليفات الإحصائية بيننا بسيناريوهاتها الستة، من دون أن تفهم الواحدة منّا ما الذي جعل الدولاب يدور هكذا. كان هذا أحد الدروس الحياتية التي بقيت معنا، هذا طبعاً إضافةً إلى أهميّته الرياضيّة التي جعلتنا نفهم بعض ركائز علم الاحتمال قبل دراسته.
وهكذا كبرت الكرة حتى أصبحت بحجم ذاك الدولاب وإن فَرُغَت حلقتُه. 

ثمّ جاءت فترةٌ أصبحت صداقاتي فيها أكثر قرباً بعد. كانت فترةً تكوّنت لدينا خلالها أسرارٌ حميمةٌ خاصّة بنا. صديقتي التالية تخبرني عن علاقتها بجسمها، عن دورتها الشهرية، عن علاقتها بثيابها، بماكياجها، بأنوثتها. كانت تحبّ الحياة والتجارب، ومعاً ذهبنا إلى حانةٍ ليليّةٍ للمرة الأولى للاحتفال بعيد ميلادها، صحبة زملاء صفّنا وزميلاته. كانت سهرةً لا تُنسى بحكم أنها السهرة الأولى. ثم أسقطت الحياة سهمها الأوّل في قلبنا إذ خسرت صديقتي أمّها خسارةً لا رجعة فيها، ولم أعرف كيف أقف إلى جانبها وقتها. كنت غارقةً في فقاعتي واعتذرت منها فيما بعد برسالةٍ أرسلتها إلى هاتفها لكنّها لم تردّ. صديقتي الحلوة تلك أعطتني درساً في الصداقة لن أنساه، وما زالت تبتسم لي ابتسامةً واسعةً للغاية وتحضنني إذا ما التقينا.
نضجت الكرة إذن وأثمرت، وامتلأ الفراغ فيها بدفء حضنٍ نعلم أنه سيأتي وإن بعد زمن.

ثم انتقلتُ إلى الجامعة وهناك تعرّفتُ إلى صديقةٍ علّمتني، أوّل ما علّمتني، العناية بشعري المجعّد كشعرها. كانت تضع رغوة "الموس" على شعرها بشكلٍ محدّد، حين يكون مبلولاً، وتقلب رأسها فجأةً إلى الخلف كراقصةٍ شرقيّة. كما كانت ترتدي تايوراتٍ حين تذهب إلى عملها، فيما كنّا جميعنا نرتدي الجينز. "توقّفي عن تشقيع قطع الثياب الواحدة فوق الأخرى، ارتدي يا عزّة قطعةً واحدةً من تحت وقطعةً واحدةً من فوق، لا أكثر!"، كانت تقول لي خلال دروس الموضة تلك. تزوّجت قبلنا جميعاً وأنجبت أطفالاً جميلين وجميلات، والتقينا بعد زمنٍ فأذهلتني كما كانت تذهلني دائماً، بمواقفها هذه المرة من العلاقة التي تربط المرأة بالرجل. امرأة عفوية، ضاحكة، تحكي الأمور كما هي ولا تجمّل، وكم أنها من النادرات.
وهكذا مع كلّ صديقة جديدة كانت كرة الحبّ تكبر، كرغوة "الموس" لحظة تضعه كلٌّ منّا في يدها.

في الجامعة تكتّلنا أنا وثلاث صديقاتٍ معاً، صرنا نقضي الأيام والليالي سوياً ندرس ونضحك ونسهر وننام. إحدانا حجزت طائرةً ذات ليلةٍ وسافرت. لم تعد من يومها. تركت كل شيء وغادرت السيستم كلّه. كانت تبحث عن نفسها في بيروت ولم تجدها، فهجّت إلى حيث افترضت أنها ستهتدي. بقينا نحن داخل السيستم، ومازلنا إلى اليوم نتساءل إن كانت صديقتنا على حقّ وقتها. مررنا بتجارب كثيرة معاً، وتعلّمنا الكثير عن الحبّ والخيانة والدعم والصدق وغيرها. 
ومن هناك، من داخل السيستم، كانت كرة الحبّ تتعاظم وتتعاظم لتمنحنا القدرة على الاستمرار. 

لن أكمل لأخبركم ماذا حدث بعد ذلك بالتفصيل، فلا بدّ أن تقسيم هذا النصّ كرونولوجياً قد بدأ يُدخل الملل إلى قلوبكم، كما أن هذه ليست جردة بالصديقات. هو بحث ذاتيّ عن بذور حبّ "مؤنّث" أولى، ستجدها كثيراتٌ مثلي إن بحَثن عنها في دواخلهنّ، لا سيما في مراحل تكوّن مفهوم الصداقة لديهنّ، وهي بذورٌ قد تسمح لنا بدحض نظريات علم النفس الحديث حول هشاشة ما يربط بيننا.  

هي أيضاً رسالةٌ لنا نحن الإناث، لنخلق عالماً موازياً، لنا ولمثيلاتنا، تكبر فيه كرة الحبّ أكثر فأكثر، وتدرك الواحدة منّا فيه عمق تأثير الأخرى فنتضامن معاً وترفع إحدانا الأخرى، ونشعر بالامتنان، وندرك أن مصائرنا متداخلة، وأن ما تزرعه الواحدة منّا في الأخرى يبقى ويستمرّ ويكبر.. من فكرةٍ إلى بذرةٍ إلى كرة حبٍّ هائلةٍ لم أكن للأسف أعرف حتى بوجودها لأنني كنت أرفض أن أنظر، بحجّة نصرة المساواة بين المرأة والرجل. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها