الجمعة 2022/12/09

آخر تحديث: 10:56 (بيروت)

المشاهَدة الكارِهة

الجمعة 2022/12/09
المشاهَدة الكارِهة
increase حجم الخط decrease
لعلّ التباهي بالجاه والمال، خصلة متأصّلة في الطبيعة البشرية، لكن لطالما لجَمتها أعراف إجتماعية وأخلاقية تفرض الحدّ الأدنى من التواضع والشعور بالخجل. إن هذا الحدّ الأدنى يزداد تدنياً، بل يوشك على الاختفاء في زمن "انستغرام"، منصّة إستعراض المال والإمتيازات، والتباهي بالشيء أمام فاقده.

بفعل "إنستغرام"، تحوّل إستعراض الثراء الفاحش إلى أسلوب حياة، ومن ثمّ مهنة تدرّ المال، الذي يدرّ بدوره مزيداً من الإستعراض، في حلقةٍ مفرغة تسمّى حياة المؤثرين influencers. إلا أن السبّاق في هذا المجال هو تلفزيون الواقع، الذي لطالما إهتم بتصوير حيوات الأثرياء، شرط أن يصحبه مبرّر ما؛ أي سرديّة عامّة تشكّل ذريعةً درامية للعمل، تستتر خلفها غايته الفعليّة، أي استعراض الثروة. أما شخصيات هذه الانتاجات فقد كانت تحتاج بدورها إلى مبرّرٍ للثراء والظهور في التفزيون. فكنّا نتابعها في مسيرتها المهنية ومساعيها العمليّة من أجل ارتقاء السلّم الاجتماعي.

تحرّر تلفزيون الواقع اليوم من هذه الضوابط. استغنى عن كل الزوائد التي لا لزوم لها، كالعمل والإنجاز المهني والطموح وجمع المال، ليتمّ التركيز في المقابل على الموضوع الجوهري حصراً، ألا وهو إغداق المال وتبذيره، بأكثر الطرق علنيةً وإشهاراً. يتضحّ هذا التحوّل، إذ ما قارنّا المسلسلات التي أطلقت هذا النمط بين نماذجها الرائجة اليوم.

ففي سلسلة The Hills (2006) مثلاً، نتبع فتاة شابّة من الريف وهي تشقّ طريقها في المدينة بعد تولّيها وظيفة في مجلّة "فوغ". حتّى سلسلة الأخوات كارداشيان، والتي تضمّ أصغر ميليارديرية في العالم (كايلي كارديشيان)، وأثارت كثيراً من الجدل لإظهارها أسلوب حياة باذخ لا تسنده أي موهبة أو إنجاز، فإنها كانت تعرض أنشطة هذه الشخصيات ومشاريعها التي تعود عليها بالأرباح، وإن كانت نشاطات فارغة، كالظهور في النوادي الليلية والترويج لمنتج أو آخر. تقدّم نساء الكارديشيان أنفسهنّ، وعلى رأسهن الأمّ ومديرة الأعمال، كرائدات أعمال ونساء مُنتِجات بصرف النظر عن ماهية هذا الإنتاج وقيمته.

أمّا في سلسلة Bling الحديثة، والتي تمّ طرحها بنسخات عديدة، منها الإفريقي والعربي والآسيوي-الأميركي، فالنشاطات التي تزاولها الشخصيّات تدور جميعها في فلك الإستهلاك- إنفاق المال، الحديث عنه، التنافس على إبرازه، الإبداع في سبل تبديده- أي كلّ ما يمتّ للمال بصِلة... باستثناء إنتاجه!

بالطبع تتحدّث الشخصيّات عن إنجازاتها العمليّة، لكنّنا لا نراهم يزاولونها البتّة. في المقابل، نراهم في حركة دائمة من أجل حضور لقاء إجتماعي، أو حفلة عيد ميلاد باذخة لطفلٍ بعمر السنة، أو جلسة تشميس لثقب المؤخرة من أجل تعزيز الثقة بنفس، إلخ... يقرّ بعضهم أن ثروته موروثة ولا يد له في جمعها، مثل آنا شاي في Bling Empire، الذي يصوّر حياة المجتمع المخملي للجالية الآسيوية في لوس أنجليس، والتي ورثت ثروتها عن أبيها بائع السلاح... أو دكتور شو الذي ينتمي لأسرة يابانية نافذة يزعم أنها متحدرة من سلالة الامبراطور. الملفت في الأمر هو اعتزاز الشخصيات بهذا التوريث، وتعاليهم على الأغنياء الجدد الذين بنوا أنفسهم وراكموا ثرواتهم بجهودهم الخاصّة.. بصرف النظر عن "طبيعة" الجهود هذه.

المفارقة في النسخة العربيّة التي تصوّر أثرياء دبي العرب والأجانب، هي تباهى الشخصيّات بإنجازاتها و"عصاميتها". ويعتبر معظمهم أن المجيء إلى دبي بـ"300 دولار فقط وتحويلها إلى ملايين الدولارات" هو مصدر فخر ودليل تفوّق. معضلة مجتمع دبي المخملي ليست ذاتها معضلة المجتمع الآسيوي في لوس أنجليس، إذ لا يعنيهم إن كانت الثروة تاريخية أم مستجدّة، بل إن كانت حقيقية في الأساس. تقول إحدى الشخصيّات أن "في دبي هناك عشرات الآلاف من المليونيرات، نصفهم حقيقي ونصفهم الآخر مزيّف.. فمن يا ترى الحقيقي بينهم؟".

صاحبة هذا القول هي زينة خوري التي تلقّب نفسها بـ"ملكة فيرساتشي". تقدّم زينة توصيفاً مبهماً عن دورها في الشركة -أي الفرع العقاري لفيرساتشي في دبي- لكنها تعطي انطباعاً بأنها صاحبة الشركة نفسها، فنسمعها تكرّر بشكل قهري "أنا الشركة، والشركة هي أنا". يتضح لاحقاً أنها مجرّد موظّفة في مكتبٍ ضيّق داخل شركة عقاريّة؛ مندوبة مبيعات ربّما، أو موظفة خدمة عملاء. أمّا صديقتها صفا، فهي مصمّمة أزياء "صاعدة"، إلى جانب وظيفتها الأساسية المتمثّلة في إنجاب أطفالٍ لزوجها رغماً عن إدارتها، ومطالبته بشراء شقّة جديدة "حالاً" لأن خزائنها -وهي غرف كاملة- ما عادت تتسّع لملابسها. لكننا لا نراها منكبّةً على العمل سوى مرةً واحدة، حين تقوم -أو بالأحرى يقوم فريق الانتاج- بتنظيم عرض لأزياء من تصميمها، لا يحضره سوى أصدقائها. إن فداحة الكذبة لا تكمن فقط في محاولة إخفاء النساء لحقيقة أنّهن ببساطة تزوّجن رجالاً أغنياء، بل في تظاهرهن بأنّهن نساء مُحرَّرات في ظلّ هذه التبعية الماديّة.

إنّ استنساخ هذه السلسلة وطرحها في مجتمعاتٍ مختلفة، هو دليل على شعبيةٍ عابرة للقارات والثقافات، شعبية الفكرة، الثروة في حد ذاتها. وهو أمر مثير للذهول في ظلّ الأزمات الاقتصادية التي يعيشها العالم، وترمي بشعوب بحالها إلى فوهة الجوع. فمن المؤكّد أن بين المشاهدين من يفتقد لحاجات أساسية، كالغذاء والكهرباء والطبابة إلخ... فبماذا يشعر هؤلاء حين يشاهدون نقصهم متجسّداً في إفراط الآخرين في التملّك والإستهلاك؟ أهو الحقد أم شكل من أشكال التعويض عما ينقصهم؟ أم يتملّكهم شعور بالرضا وتحقّق العدالة حين يرون المشاكل والصراعات التي يخوضها الأغنياء، والتي هي من كوكب آخر، ربما، بالنسبة إليهم؟

ربّما هو مزيج من هذه المشاعر كلها، وهو ما يجعل مشاهدة هذا النوع من الإنتاجات أمراً مثيراً للهوس، والإدمان أحياناً. وبما أن بلوغ أو اختبار هذا النمط من الحياة الباذخة هو أمر مستحيل بالنسبة إلى غالبية البشر، يضحي التلصّص عليهم حاجة نفسيّة تشبع الرغبات الفضولية والتعويضية، وإن كانت في الوقت نفسه تثير مشاعر الكراهية وسوء الحظّ، في ما يصطلح على تسميته بـ"المُشاهدة الكارِهة" (لهم؟ أم لأنفسنا؟)... لعلها تلك الرغبة المتسلّطة لتعريض الذات الى مَشاهد مزعجة، لكننا لا نقوى على مقاومتها.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها