الإثنين 2022/12/05

آخر تحديث: 10:55 (بيروت)

نقاط الألم.. ومفرداته

الإثنين 2022/12/05
نقاط الألم.. ومفرداته
increase حجم الخط decrease
يسأل العاملون في مجال التدليك، أصحاب الأجسام المستسلمة على الأسرّة الرفيعة، عن طبيعة أعمالهم، في محاولة لفهم عوامل الضغط التي يتعرضون لها. سؤال استهلالي لدردشة قد تطول، ولو أن احتمالية ذلك ضئيلة، فالراضي بجلسة التدليك هو باحث عن صمت في ساعة هاربة من الصخب اليومي وضوضائه.

لذا فإن السؤال في الغالب مهني، غايته الاستدلال إلى مكامن اختباء نقاط التوتر، لاستبيان كيف ترمي بثقلها عند الأعناق وبين الأكتاف وأسفل الظهر، عند الرُّكبتين والكاحلَين، وكيف تسارع للقاء الزيت المسكوب على الجلد الرضّ، لتغتسل من ذنوبها.

يأتي السؤال بالانكليزية غالبًا على النحو التالي ?what do you do for living، بمعنى كيف تحصِّل لقمة عيشك؟ ويمكن ترجمتها أيضًا، ماذا تعمل من أجل العيش؟

ربما الميل الذي يغلبك في تلك اللحظة، أي عند استشعارك اقتراب أصابع المختص إلى نتوءات ناجمة من تشابك غير مفهوم، يتجه إلى فهم السؤال على النحو التالي، ماذا تفعل لتستطيع مواصلة العيش؟

قد تحار في أمرك، من أين تبدأ؟ ولو وافتك الإجابة بسهولة، فإن النطق بها بمخارج حروف واضحة أمرٌ في منتهى الصعوبة. لأنك على الأرجح مُمدّد على بطنك، ورأسك مطوق في دائرة سقط فيها وجهك، وقد فُصلت مبدئيًا عن أذُنيك. وهذه الوضعية بحد ذاتها كفيلة بجعل قدراتك متضعضعة، ليست في موقعها المحدد لها لأداء وظيفتها على النحو المطلوب لكي تتمكن، أنت أيها المستلقي، من الإجابة عما تحاول طمسه طوال الأسبوع والشهر والسنة تحت عتبة المكتوم.

فتعود لتردد السؤال في ذهنك وسط طنين تأوهات تخرج منك لا إراديًا وبشكل منتظم، لا يقطعها سوى سؤال صاحب الأنامل مفترسة ضلوعك عن مستوى الألم الذي تشعر به الآن ومدى قسوة التدليك، معقول؟ قاسٍ؟ أم لا يحتمل؟ وكأنه سؤال من الأسئلة الوجودية التي تتفرع من سؤال بلاغي على غرار: وما الحياة سوى ما نخسره؟ أو ما طعم الحياة لولا تلونها بين المرارة والحلاوة؟

تقتضي الاستمرارية في الحياة ابتلاع غصاتنا بصمت، ما يعني تمرينًا يوميًا وحثيثًا لعضلاتنا وأعصابنا وحواسنا على التعامل مع الألم. تدريبات لا تنتهي بمستويات مختلفة، في المنزل، في العمل، في دائرة الأصدقاء، على خطوط الزمن المباعد بين الأحبة، لاحتباس الوافد إلينا على شكل كرات صغيرة جدًا إنما ثقيلة وأقوى بخبطها علينا من حجر باطون لا يبارح صدرنا.

ذهب الباحثون بعيدًا في قبول الألم الناجم عن الفقد والخسارات والقلق، كمسبّب لأمراض جسدية. الأطباء، الذين لا يعترفون بالأمراض إلا بما هو مثبت منها بشكل عضوي، ولا يقرّون بأحقية المريض بالألم إلا لو كان يمكن قياسه وإثباته بدليل مادي، أصبحوا أكثر قبولًا بفكرة أن جانبًا من جوانب المرض الذي ينهش الوافد إليهم سائلًا العلاج، كامنٌ في عوامل نفسية ومجتمعية وتفاعل خاص بالذاكرة وغيرها من صدمات مكتومة، أحيانًا تنشطر كقنبلة عنقودية في الجسد.

ورغم ذلك، نجدنا حريصين على عدم اقتراف المحظور ووصف ما يعترينا بالمؤلم، ما لم يكن سببه جسديًا. نتحادث في شجوننا ونتشارك، فنقول إن هذا الفعل أغاظني، وذاك أغضبني. نخبر أحزننا كيف ما سمعناه، وأن القلق تلبس بنا بعدما تعرضنا لهذا الحادث أو سمعنا ذلك الخبر، ونتفادى القول بأنه آلمنا!... نخاف أن نُتهم بالضعف أو بالمبالغة... فالضعفاء ليسوا محبذين والمُبالِغون في الألم هم ضعفاء! هذا يقدم نصف إجابة.

ربما، لو أسقطنا مفردة الألم من قاموسنا، تسقط أسبابه من بالنا، تهدأ عوارضه وترتدي الأوجاع أثوابًا في الكواليس، لتخرج بها إلى مسرح اليوميات بهيئة رأس على وشك الانفجار، لا تضبطه فناجين القهوة المكثفة من العيار الثقيل، ولا تُسليه قطع الحلوى المشبعة بالكريما.
وصفة باهية للإنكار، لأن أي مفردة أفضل من قول الكلمة التي مزقنا ورقتها من كتاب "قُل.. ولا تَقُل". لا نقول: آلمني، إذًا نحن لا نتألم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها