الأربعاء 2022/12/21

آخر تحديث: 20:50 (بيروت)

"بينوكيو" ديل تورو.. تحفة فنية تستحق شاشة أكبر

الأربعاء 2022/12/21
"بينوكيو" ديل تورو.. تحفة فنية تستحق شاشة أكبر
increase حجم الخط decrease
مدفوعين بسخاء محفظتها والمرافق والتسهيلات الإنتاجية، يميل العديد من المخرجين/كتاب السيناريو/المنتجين المرموقين إلى التوجّه صوب "نتفليكس"، بمشاريع مجنونة وجامحة و"شخصية"، بعيداً في الأغلب من الجودة الفنية لأعمالهم السابقة. لكن غييرمو ديل تورو يبدو أحد الاستثناءات الحميدة للقاعدة السائدة. 

بعد أنطولوجيا الرعب التي قدّمها المخرج المكسيكي في وقت سابق من العام الحالي بعنوان "حجرة العجائب"، حان الآن دور فيلم كان يحلم بإنجازه منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، والآن فقط، بفضل "نتفليكس"، تمكّن من تمويله وتحقيقه.

يعرف ديل تورو أنه، في محيط هوليوود ونواحيها، ليس سينمائياً استنثائياً وحسب، وإنما أيضاً "علامة تجارية" بحدّ ذاته، وهذا هو السبب في إضافته أخيراً اسمه إلى كل أعماله تقريباً، بشيء من الصلف وربما الغرور. لذا، ففيلمه الجديد ليس "بينوكيو" من كارلو كولودي (المؤلف الأصلي للرواية)، بل "بينوكيو من غييرمو ديل تورو". 

هكذا، ببساطة ووضوح. سيرى البعض في هذا القرار اختلاساً لعمل كلاسيكي تعاقب على تكييفه واقتباسه للشاشة العديد من الفنانين، لكن هذا ما يفعله كل فنان عظيم عند نقله عمل ما: استملاكه، وجعله خاصاً به، وإعطائه بصمته الخاصة، وسبكه لتسكينه هواجسه الشخصية (حتى بعضها القادم من الطفولة).

الحقيقة هي أن ديل تورو يتغلّب على كل التحديات والشكوك (خصوصاً بعد نسخة بينوكيو السينمائية الأخيرة من هذا العام أيضاً في فيلم سيئ من إخراج روبرت زيميكيس وإنتاج ديزني)، وبهذا الفيلم - الذي شارك في إخراجه مع مارك غوستافسون (المسؤول عن الجانب التحريكي للفيلم) - ينضمّ إلى التاريخ الحديث الغني لأفلام تحريك بارزة بتقنية إيقاف الحركة (stop-motion)، على خطى إنتاجات ستديوهات "آردمان" لبيتر لورد، و"لايكا" لمؤسسيها نيك بارك وديفيد سبروكستون، و"كارتون صالون" الإيرلندية، أو أعمال تيم بيرتون وهنري سيليك).

تماماً كما فعل في فيلمه السنتمنتالي الدائر حول مخلوق بحري يقع في حبّ سالي هوكينز، والذي فاز عنه بجائزتي أوسكار، يراهن ديل تورو على نظرة متعاطفة منطلقة من أنسنة الوحوش: يعاين مخلوقات تبدو للوهلة الأولى وحشية، ويعرج في طريقه على بشر استحالوا وحوشاً مدمّرين، مثل بينيتو موسوليني (1883-1945). 

يظهر الدوتشي الإيطالي في الأفلمة الجديدة لهذه الحكاية الخرافية من العام 1883 حول سوء السلوك الطفولي، حيث يستخدم المخرج الحرب العالمية الثانية كساحة تاريخية لإعادة سرديته، تماماً كما فعل في فيلمه الأشهر "متاهة بان" (2006).

في ذلك الفيلم، تكتشف فتاة تبلغ من العمر أحد عشر عاماً، أثناء أهوال الحرب العالمية الثانية، عالماً من القصص الخيالية، حيث والدها الملك ينتظرها كأميرة مفقودة لكسر لعنة أصابت مملكته السحرية. كلا العالمين، الفانتازي والحقيقي، يتداخلان؛ لا توفّر الحكاية الخيالية مع وحوشها التي تأكل الأطفال ملاذاً من الواقع، ولكن، في الأخير، ينبغي التغلّب على المصاعب والمشاق. حزن لا يمكن تصوره تتزامن مع سعادة لا يمكن تخيّلها، حين ترقد الفتاة على أرض الغابة في النهاية برصاصة في بطنها، بينما تخطو في نفس الوقت أمام والدها الملكي والناس المبتهجين في القصة الخيالية الموازية.

فقط في ضياء التجلي/الحلول يصبح من الممكن اجتياز الاختبارات، لمواجهة بشاعة العنف والحرب، ومقاومة الموت والفاشية. وهكذا، رغم قتامة نبرتها، في النهاية، يسود أمل إنساني عميق جميع أفلام ديل تورو.


"بينوكيو" يشحذ هذه الفكرة أكثر. يملك"متاهة بان" طبقة حركة-حيّة (بممثلين حقيقيين من لحم ودمّ) حول عالم حكاية خرافية يحضر فيه التحريك جزئياً، ولكن هنا لا يوجد سوى الرسوم المتحركة ذات الحركة المتوقفة. التوتر بين الحياة والموت، عوالم الكبار والأطفال، أصبح الآن مسألة ضمنية في الحكاية الخيالية. يُفهم ذلك بعد بضع دقائق فقط، عندما يُسمع صوت طنين وتظهر الطائرات المقاتلة في سماء العالم الطفولي المبتهج الذي يتشاركه جيبيتو وابنه كارلو. مرة أخرى نجد أنفسنا في زمن الحرب العالمية الثانية، مرة أخرى تحت رحمة الفاشيين، هذه المرة الإيطاليين. إحدى القنابل التي أسقطتها هذه الطائرات تكلّف كارلو حياته.

معالجة ديل تورو الجديدة لنصّ كولودي تستحضر ما فعله فرانسيس فورد كوبولا، قبل 20 عاماً، مع "دراكولا" برام ستوكر، حين استبدل عباءة بيلا لوغوسي التعبيريّة بغلاف رومانسي ووجودي ممثلاً في هيئة وحضور غاري أولدمان، الذي ظهر معتمراً قبعة ضخمة في كل مشهد تقريباً. مظهر ديزني الأنيق والملوّن، وأردية طلاب المدرسة الثانوية الممنوحة للشخصيات في النسخ السابقة "الأخفّ" من "بينوكيو"؛ تذهب بلا رجعة، وتحضر هنا نظرة أكثر قتامة وعتمة تنزل بالفانتازيا الطفولية إلى أرض البالغين.

يدخل بينوكيو في البداية حياة جيبيتو مثل ريح عاصفة، يعبث وينشر الفوضى في الورشة. يريد لمس كل شيء ومعرفة كل شيء. وسرعان ما يدرك جيبيتو أن هذه ليست قوة شريرة (كما يغمغم روّاد الكنيسة)، بل الحياة المحتدمة التي عادة ما تطارد عالم البالغين بسعادة في شكل أطفال يحبّونهم ويرنون وجودهم في حياتهم.

يعتمد الفيلم على إخراج فني خصب، مرتبط بالجماليات المظلمة لمراحل ديل تورو المختلفة، بدءاً من "العمود الفقري للشيطان" (2001) وصولاً إلى "قمّة قرمزية" (2015)، لكن يُضاف إليها مظهر خشبي مستمد من هيئة بطل الحكاية. اختيار تقنية إيقاف الحركة، حيث يتم تحريك الكائنات إطاراً بإطار، يعطي إحساساً غريباً بالحيوية، ويساعد في إضفاء لمسة تجريدية على دمى لطالما قُدّمت لإعطاء هيئة مقبولة لسرد أخلاقي تعليمي.

كل شيء يتنفّس باسم ديل تورو، المتأصّل بشكل خاص في بناء عالم الفيلم، حتى إنه يطغى على نسخة الإيطالي ماتيو غاروني من العام 2019 (نسخة أخرى قاتمة، وأحد أكثر التكييفات السينمائية إخلاصاً للأصل الأدبي)، من بطولة روبرتو بينيني في دور جيبيتو.

لا يمكن قول الشيء نفسه عن الشيء الذي صنعه روبرت زيميكيس، بناءً على النصّ نفسه (إنما بدون هوية تأليفية وكسل إخراجي كامل). في هذه النسخة سيئة السمعة، هناك تكرار خالص للصيغ (وتكرار حتى لتوم هانكس، في دور جيبيتو)، بينما في نسخة ديل تورو هناك ابتكار واختراع. هناك أيضاً تفاعل/لعب ذكي مع أكواد وتقاليد الأفلام الموسيقية وسينما المغامرات، وسخرية مريرة من تفاهة الشرّ الإنساني، وتمهيد مثالي للتصالح مع حتمية الفناء البشري، واحتفاء دائم بقيمة الحياة وكلّ ما يعطيها المعنى.

مثلاً، في هذه النسخة يقوم بدور الراوي الصرصار سيباستيان كريكيت (الأداء الصوتي لإيوان ماكجريجور)، ويبدأ ديل تورو القصة بموت كارلو، ابن جيبيتو الساحر والمحبوب، وكيف، في نوبة من الألم والحزن، قام النجّار الماهر (الأداء الصوتي لديفيد برادلي) بخلق وبناء بينوكيو (غريغوري مان)، الدمية الخشبية ذات الانف الطويل التي ستصبح فيما بعد أشبه بابن بديل يعوّضه عن فقيده الغالي.

مثل الشخصية الرئيسية، تأخذ نسخة ديل تورو حياة خاصة بها وتصبح هذياناً بصرياً مبهجاً، بدينامياتها الخاصة، ولحظاتها المفاجئة، وحتى بُعدها السياسي (يظهر الديكتاتور بينيتو موسوليني بنفسه في مشهد ساخر بقدر بشاعة نهايته). المثلب الوحيد هو بضع فقرات موسيقية (من تأليف ألكسندر ديبلات) تبدو موجودة فقط لاستهداف جائزة الأوسكار.

إذا كانت الرسوم المتحركة إطاراً بإطار ممتعة، وتمثّل إنجازاً فنياً وتقنياً حقيقياً (في بعض الأحيان، في أكثر المقاطع روعة، يبدو أنها تتحاور مع جماليات "ستديو غيبلي" وصانعه العظيم هاياو ميازاكي)، فإن مساهمة الممثلين البارزين لتقديم أصواتهم لا تقلّ أهمية: ينضمّ إلى إيوان ماكغريغور المذكور سلفاً، كلّ من كريستوف والتز، وتيلدا سوينتون، وكيت بلانشيت، وجون تورتورو، ورون بيرلمان، وتيم بليك نيلسون. فريق أحلام تمثيلي حقيقي لفيلم يقدّم تجربة فريدة تستحق الاستمتاع بها على أكبر شاشة ممكنة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها