الجمعة 2022/12/16

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

مهمة حزبية إلى كلّية الشريعة

الجمعة 2022/12/16
مهمة حزبية إلى كلّية الشريعة
حافظ الأسد خارجاً من الجامع الأموي بدمشق - أكتوبر 1973 (غيتي)
increase حجم الخط decrease
في سوريا ثمانينات القرن الماضي، كانت ممارسة المسلمين للتديّن، ولو بأبسط صوره، يمكن أن تعدّ تهمة تودي بصاحبها خلف الشمس، حتى لو لم تكن له علاقة بالسياسة. هذا ما جرى مع العديد من أبناء بلدة الحفّة الذين اعتقلوا وغابت أخبارهم، وبعضهم كانوا طلاباً في المرحلة الثانوية. لذلك كانت تحذيرات الأهل والأقارب تؤكد على التزام الصمت وحلق اللحية التي ما كادت تنمو في وجوهنا. حتى أن الحفة كانت تبدو كأي بلدة "تقدمية" في الاتحاد السوفياتي المنقرض، لا يمكن أن ترى أحداً بلحية، ربما باستثناء الشيخ إبراهيم الشعار (والد وزير داخلية الأسد الابن في ما بعد، اللواء محمد الشعار). وهذا ما دفع الناس، خصوصاً الشباب، للابتعاد عن المساجد والصلاة في بيوتهم. أتذكر جيداً كيف كان "جامع السوق" فارغاً إلا من عدد قليل من كبار السن، فقد كان قريباً من مدرستنا، نذهب إليه لشرب الماء التي كانت تنقطع لأوقات طويلة في البلدة وما زالت.

في ذلك الجو، وعقب حصولي على الشهادة الثانوية/الفرع الأدبي في أواخر الثمانينات، استدعاني "الرفيق حبيب علي"، أمين فرقتي الحزبية في "شعبة الحفة لحزب البعث العربي الاشتراكي" التابعة لفرع اللاذقية. وقال: لقد اخترناك للدراسة في جامعة دمشق بمنحة من الحزب. كدت أطير فرحاً قبل أن يكمل: إلى كلية الشريعة. صمتُّ قليلاً! ثم قلت له: لا أريد كلية الشريعة، أريد الدراسة في كلية الحقوق أو الآداب. وبدأت أشرح اهتمامي بالحقوق وآمالي، لكن كلامي كان غير ذي جدوى. وقال: إلى كلية الشريعة فقط.

لم أقبل المهمة. وخرجت من شعبة الحزب متسائلاً: لماذا يختاروني ولا واسطة لي؟ ولماذا إلى كلية الشريعة؟ ما حيرني أكثر معرفتي أن "الرفيق حبيب علي" لا يصلّي ولا يصوم أصلاً، وكان زميلٌ لي يخبرني كيف يحتسي الويسكي مع والده دائماً.

وقتها لم أعرف أجوبة لتلك الأسئلة، وغابت في أعماق ذاكرتي إلى قبل بضع سنوات عندما كتبت دراسة عن جامعة دمشق، ومن ضمنها أحوالها في زمن الأسد الأب، لأكتشف تفسيرات لتساؤلاتي القديمة التي سرعان ما عادت إلى الذهن، بالإضافة إلى مشاهدات وقضايا أخرى مررت بها خلال دراستي الجامعية وما قبلها، لأجد أجوبة لها جميعاً بعدما تبين أنها كلها على صلة ببعضها.

السؤال الأول: لماذا المهمة إلى كلية الشريعة حصراً؟ تبيّن أن "القيادة القطرية لحزب البعث" تبنت التوصية التي قدمها "الرفيق رفعت الأسد" في خطابه أمام المؤتمر القطري السابع للحزب العام 1979، والتي تقول: "يوصي المؤتمر بتكليف وزير التعليم العالي بفتح كلية الشريعة للحزبيين ممن يرشحهم الحزب لنيل الإجازة منها (كمهمة حزبية)، وبأن يُضيق على أصحاب الفكر الديني المُخرّب الدخول إليها، بحيث يصبح غالبية خريجيها خلال ست سنوات من الرفاق القوميين التقدميين". إذاً الرفاق في شعبة الحفة كانوا يرون فيَّ رفيقاً تقدمياً؟ ولفهم هذه التوصية يجب النظر إليها في سياق الصراع الذي كان محتدماً بين نظام الأسد وجماعة الإخوان المسلمين.

كما كان الجواب السابق تفسيراً لأمور أخرى عايشتها خلال دراستي، ولم أفهمها في حينها. الأمر الأول تعيين معلّمة علوية غير محجبة، في النصف الثاني من الثمانينات، لتدريسنا مادة التربية الإسلامية بدلاً من المدرّس الذي كان أحد أبناء بلدتنا التي تُعدّ بلدة محافظة، وذلك على الرغم مما يثيره ذلك من حساسية. فهذه المُدرّسة، على ما يبدو، كانت من الدفعات الأولى من معلمي التربية الإسلامية "القوميين التقدميين".

والأمر الثاني الذي وجدت تفسيراً له، ويتعلق بالأول، وهو وجود طلاب علويين يدرسون في كلية الشريعة بجامعة دمشق مع أن التدريس فيها وفقاً للمذاهب السُنّية. وهؤلاء الطلاب، بالإضافة إلى مسألة دراستهم وفق مذهب لا ينتسبون إليه، سيصبحون معلّمين له بعد أن يصبح تدريس التربية الإسلامية مهنتهم. وما يزيد الطين بلة، أنهم كانوا بعيدين تماماً عن الحد الأدنى من التديّن أياً كان نوعه، وهو ما اكتشفناه خلال معاشرتهم في معسكرات التدريب العسكري الجامعي الصيفية.

ويبدو أن البُعد من التدين كانت شرطاً رئيسياً لترشيح الطلاب الحاصلين على الشهادة الثانوية للمهمات الحزبية في كلية الشريعة، وهذا كان جواب وتفسير اختياري لتلك المهمة. ففي تلك الفترة، لم أكن أولي التديّن أهميةً تُذكر، ولم يكن الالتزام الديني شائعاً في عائلتي الكبيرة، وإن كنا نعيشه كمكوّن من ثقافتنا وحياتنا اليومية. وتأكدت لي صحة ما ذهبت إليه من خلال ما عايشته عندما جاورت، في "حي الإخلاص" القريب من الجامعة، بعض طلاب كلية الشريعة السُنّة من الموفدين في مهمات حزبية، فقد كانوا بعيدين من أي التزام ديني، لا يصلّون، ويشربون الخمور، بل يمكن وصفهم بالزعران بكل معنى الكلمة. كما كان ذلك الجواب تفسيراً لظاهرة من عُرفوا بـ"شيوخ البعث".

تُبيّن تلك القرارات والسياسات إلى أي مدى ذهب النظام في محاولته فرض سيطرته على المجتمع، رغم ما تثيره من حساسيات طائفية ومجتمعية سكت الناس عنها خوفاً، لكنها حفرت في نفوسهم كرهاً عميقاً لنظام الأسد ومنظومته كاملة، ظلا ينتظران التعبير عن نفسيهما، وهو ما كان العام 2011 مع انطلاقة الثورة التي كانت بلدة الحفة من أولى البلدات المشاركة فيها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها