الأحد 2022/12/11

آخر تحديث: 20:06 (بيروت)

نحن الذين ما زلنا نخاف أيام الآحاد

الأحد 2022/12/11
نحن الذين ما زلنا نخاف أيام الآحاد
لوحة: جاكسون جويس
increase حجم الخط decrease
لماذا ما زلنا نخاف أيام الآحاد؟ "النون" هنا، أي نون الجمع، هي التي تجمع من هم مثلي يخافون أيام الآحاد، وأستخدمها هنا لأني صرت أعرف أني لست وحدي في خوفي هذا. نحن لسنا قلة، نحن أشبه بأعضاء في نادي الخائفين من الآحاد، وإن تعددت وتنوعت أسباب خوفنا.

بعضنا يستبدل تعبير الخوف بتعبير الكره، يكرهون الآحاد.
أنا أخافه. لا أكرهه. ليتني أكرهه، أجده شعورًا أسهل وأخف وطأة، ولا قدرة له على فعل ما يفعله بي الخوف. فوصف"أكرهه" نهائي، يعني أنه بإمكاني أن أدير ظهري لأيام الآحاد إن كنت أكرهها، لكني أخافها.

أخاف قدوم الأحد، وأحذر من اقترابه. أخافه وأنا أعيش لحظاته التي ربما بإمكاني يومًا ما أن أتصالح مع مسببات خوفي منها.

في فترات متفاوتة ومتفرقة سابقة، خفَّ هذا الخوف، بل حتى أنه اختفى، لكني لا أذكر تلك الفترات لبُعدها عن الآن، وعن الخوف الحالي المتمدّد الذي تعدني بحلله كل أيام الأسبوع التي تسبق يوم الأحد.

أعتمد هنا مفردة "خوف"، وهي ليست المفردة الأدق، لكني أستخدمها كي أجنبكم مفردة أثقل، وإن كانت النتيجة في المفردتين تتضمن خوف. لكن مفردتي الأصل تحمل، قبل الخوف وبعده، حزناً أزرق، بلون السماء التي تلي انتهاء النهار. إنها مفردة "ميلانكوليا". يبدأ الأحد بالتسلل جديًّا مع بدء انتهاء السبت، وتتسرب معه ببطء الميلانكوليا، فتتأكد وحدتي.
أحدٌ، وأنا أحد. واحدة لا شريك لي. والأحد يؤكد لي هذه الوحدة.

يقول لي الأحد أن دورة أيام كاملة دارت، وعلى وشك أن تُقفل دورتها فيما أنا وحيدة. يقول لي الأحد أنه على وشك أن يصبح "إثنين" في حين أنني سأبقى "أحد". يحسم لي أمر استمرار وحدتي. وعند اقتراب انتهاء نهاره، وبدء قدوم مسائه، يغرس الأحد في قلبي سكينًا: أنظري إلى العتمة الزرقاء فوقك، هذه أكثف درجات الازرقاق وأكثف دقائق وحدتك، عيشيها بكل مرارتها وبكل دموعك، ولا تظني أنها ستنتهي تمامًا بعد ساعات، لن تنتهي إلا مؤقتًا لتبدأ مع انتهائها دورة أيام أسبوع جديدة تنتهي بأحدٍ آخر!

عندما يأتي الأحد، أصبح أنا زرقاء. ولا أقصد ذاك اللون السماوي الذي يدعوك للإشراق. لا شيء يدعو للإشراق في الأزرق الآحادي الذي أُصبحه.

فالأزرق الذي أصبحه يضعني على جزيرة مهجورة، بل يجعلني أنا الجزيرة المهجورة، بردانة، أرى الناس من بعيد ولا يرونني. لا أحاول الصراخ لأني مدركة أنهم لن يسمعوني، وإن سمعوني فلن يفهموني، وإن فهموني فلا حبل نجاة لديهم ليرموه صوبي ويسحبوني صوبهم. وإن سحبوني، فأنا اصلًا أعرف أنهم ليسوا من أريد. أنا أعرف من أريد، والآحاد المتكررة أكدت لي مرارًا أني لن أحصل عليه.

أعلم أنه لو فقط يحصل ما أتمنى أن يحصل، سيكون بإمكاني أن أنجو من الآحاد، لكني أعلم أيضًا أنه لن يحصل، لذلك أعلم أيضًا مستدركة أنه لن يكون بإمكاني أن أنجو من الآحاد أبدًا.

آحادي تنقصها يد تحت قيمصي، أسفل ظهري، قدم فوق قدمي، شعر لحية نابت تحت أناملي، مساحة مسروقة من كنبتي، شمس على ظَهر عارٍ قربي، صمت غير ثقيل، نظرةٌ باتجاهي مُرسَلة من المطبخ، شفتان توقظاني من كسلي ونومي، شفتان تعيداني إلى سرير ليس بالضرورة سريري، رائحة تصبح رائحتي. ما ينقص آحادي صار بعيدًا، غير مرئي، واكتماله صار غير مرجّح.

حتى الرسائل القصيرة لا تصل يوم الأحد. تنتظر في ملف بعنوان Draft، وتبدأ بالوصول يوم الإثنين. سعاة البريد الإلكتروني في عطلة. رسائل الإعلانات ستصل، كأملٍ بت أعرف مسبقًا، عندما يرنّ معلنًا قدومه، أنه كاذب. الأفلام في التلفزيون مُعادة. وجبة طعام الأحد هي ما تبقى من السبت.

الأحد لا يأخذ عطلة من الميلانكوليا. الصيف لا يحل في الآحاد، حتى تلك التي أمضيها على الشاطئ. الآحاد هي التي بإمكانها أن تحل في الصيف، وفي باقي الفصول، فتجعل حتى الربيع يوم أحد.

الاستحمام لا يمكن أن يغسل الأحد عني، بل على العكس، يغمق إزرقاقه وازرقاقي. أستحم ظنًّا مني أني سأنتعش، أو علني باستحمامي وانتعاشي سأخدع أحدي فأبدّله، لكني أجدني أخرج من الحمام على الأزرق نفسه. لا يمكن غسل الأحد قبل أن يعلن هو نفسه، وبشكل رسمي، انتهاءه. لا يمكن إنهاء الأحد إلا عندما ينتهي الأحد. ولن ينتهي قبل الإثنين... انتهاء مؤقت وقصير.

النوم، إن رأف بي، حيلة مناسبة للهروب من الأحد. لكن حذار النوم قبل انحسار الضوء. لأن النوم الذي يأتي أثناء ضوء النهار لا يستمر طويلاً، لا يستمر إلى اليوم الذي يلي الأحد. وعليه، عند الإستيقاظ، سأظن مخطئة، وإن للحظات خادعة، أن الأحد انتهى، وأني نجوت منه. لكنه لم ينته، ما زال يتمدد ولديه المزيد من الساعات. أجهد كي لا أستحضر النوم قبل انتهاء الضوء، وبعد وقت مقبول من بدء الغرق في العتمة، لأضمن استمرار النوم حتى انتهاء الأحد، وفي حال استيقظت قبل "الإثنين" فما أجده سيكون عتمة أيضًا، ولن أضيع في هذه الحالة في برزخ الوقت.

لا هدنة مع الآحاد، فقط استسلام، بما أن المُنتظَر لم يعد مُنتظرًا لاقتناعي بتعذر وقوعه. سأسقط في بئر الأحد عند نهاية كل أسبوع، وسأحاول طيلة ساعات نهاره وليله تسلق جدرانه بيديّ وأسناني وبساعات نومي وأحلام يقظتي وبآهات وآخات كثيرة، كي أقذف نفسي خارجه. ثم أبدأ من جديد بالتقدم خطوة تلو الخطوة نحو أحدٍ جديد. وعندما يحل مساء السبت، بوابة الأحد، سأدخله بعدد أنفاس أقل وأزرَقُّ شيئًا فشيئًا. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها