الثلاثاء 2022/11/08

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

سوريا: فلتعمَل من منزلك.. وسنلاحقك يا "عميل الظل"!

الثلاثاء 2022/11/08
سوريا: فلتعمَل من منزلك.. وسنلاحقك يا "عميل الظل"!
increase حجم الخط decrease
يضاف قرار تجريم العمل بشكل مستقل في سوريا، إلى لائحة طويلة من القوانين والقرارات التي يصدرها نظام الأسد بشأن الإنترنت في البلاد، مثل "متابعة الصفحات المشبوهة" أو اعتبار الرموز التعبيرية (إيموجيز) جريمة تستحق الملاحقة الأمنية، ما يقدم دلائل إضافية، كل مرة، على نوعية السلطة الحاكمة في البلاد، والتي تبدو متحجرة فكرياً وحضارياً مثلما هي متوحشة وإجرامية على الصعيد الإنساني.

"مخالفة وغرامات مالية لمن يمارس مهناً فكرية ضمن مقره السكني من دون ترخيص"، هو ملخص التعميم الجديد الذي أقرته وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام السوري، للتضييق على من تبقى من صحافيين في البلاد يعملون بشكل مستقل إلى جانب عاملين في مهن أخرى ذكرها التعميم بشكل حرفي، مثل تصميم الغرافيك أو الرسم وتصميم الأزياء، أو عاملين في مهن أخرى تحتاج إلى "حاسب شخصي" أو "قلم"!

ويتم تقديم القرار الجديد الذي نقلته صحيفة "الوطن" شبه الرسمية، على أنه محاولة من حكومة النظام لحماية "المنتجات الفكرية" وفصل المقرات السكنية عن مقرات العمل، لكن الواقع مختلف لأن الأمر لا يتطلب سوى امتلاك الشخص لكومبيوتر في منزله وشكوى من أحد جيرانه على سبيل المثال لإلصاق تهمة "العمل في الظل" به. وهي تهمة مثل عشرات التهم العشوائية المماثلة في سوريا والتي يمكن إلصاقها بالأفراد عند الحاجة، ما يحولها بالتالي إلى مجرد أسلوب للتشبيح على المدنيين بثوب قانوني، يُظهر فيه النظام نفسه على أنه سلطة متحضرة تنتمي للقرن الحادي والعشرين رغم كونه مجرد عصابة استولت على السلطة بانقلاب عسكري العام 1970، بكل ما يحمله التعبير من معنى.

وطوال عقود، كان العمل بشكل مستقل، وتحديداً في الصحافة، أقرب إلى تهمة غير رسمية. وفي مقررات كلية الإعلام الوحيدة في البلاد، كان هناك ضخ مستمر في مقررات مختلفة، من بينها "الأخلاق المهنية" التي كان وزير الإعلام الحالي بطرس حلاق يدرّسها شخصياً، وترسم صورة قاتمة للصحافيين المستقلين الذين لا يتبعون لمؤسسة إعلامية بل يفضلون العمل المستقل والنشر مع وسائل إعلام متعددة، من دون تقييد أنفسهم بمجال واحد للكتابة. والبديل المفضل، وفق الرؤية الرسمية، بالطبع هو العمل تحت مظلة إعلامية "وطنية" تحدد للصحافي ما يجوز وما لا يجوز بإشراف القيادة "الحكيمة" التي تعرف تفاصيل الأمور وخفايا الكواليس.

وفي الصحافة تحديداً، لا يعتبر القرار جديداً بالنظر إلى تاريخ النظام الطويل في قمع الحريات الصحافية. وأصدر النظام العام 2017 قراراً جرّم بموجبه عمل الصحافيين الفريلانسر وأقر بـ"عدم شرعية العمل بالصحافة من دون شهادة جامعية من كلية الإعلام وبطاقة صحافية من وزارة الإعلام". كما منعت قرارات مشابهة، العمل في الصحافة والكتابة، من قبل "أصحاب المهن الأخرى"، علماً أن البلاد تقبع في المرتبة 171 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" للعام 2022، حيث لا تعمد "الدولة السورية" إلى قتل الصحافيين المعارضين وتكميم أفواههم فحسب، بل تنظر عموماً للإعلام في البلاد كجهاز من الأجهزة الرسمية لا أكثر، ما يجعل وظيفته تتلخص في نقل البيانات الرسمية وتنفيذ الأوامر.

ووفق المنظور الرسمي، فإن الصحافي الذي يعمل بعيداً من وسائل الإعلام "الوطنية" لصالح وسائل إعلام متعددة، حتى لو كانت حليفة للنظام نفسه، يعتبر خائناً ومرتزقاً ومن "صغار الكسبة" و"عبدة الدولار" و"المأجورين"، وكلها عبارات لاحقت صحافيين موالين لا يعملون في الإعلام الرسمي خلال السنوات الماضية. ولا داعي لتخيل نوعية الاتهامات التي قد تطاول صحافيين مستقلين فعلاً ممن يمتلكون وجهات نظر معارضة سياسياً على سبيل المثال، لأن التقارير الحقوقية المختلفة وثقت طوال عقود، حتى قبل الثورة العام 2011، كمية الانتهاكات بحق الصحافيين والناشطين والمدوّنين والكتّاب، من الاعتقال التعسفي إلى المنع من السفر وحتى القتل والاغتيال.

يعطي ذلك لمحة عن طبيعة ودور الإعلام في سوريا الأسد، بوصفه أداة رسمية لتوجيه "الرأي العام". كما أن المشهد يتسع لأن القرارات الجديدة تشمل مهناً أخرى في عصر بات فيه العمل من المنزل حالة طبيعية بسبب الحلول التكنولوجية وتغير طبيعة العمل عموماً من جهة، وما فرضته جائحة "كوفيد-19" من جهة أخرى.

وإلى جانب مجافاة هذا النوع من القرارات لمتطلبات العصر والحياة المهنية الطبيعية في أي بلد في العالم، وبعد السخرية التي تستدعيها، فإنها تكشف هشاشة أكاذيب النظام السوري التي تصور البلاد على أنها بخير، وأن النظام "المُنتصر على الإرهاب" والبلاد ككل ضحية مؤامرة تخريبية تمثّلت في ثورة 2011. 

وبهذا، فإن القرار الجديد ليس إلا استكمالاً لقوننة تهم العمالة الجاهزة، والتي تكمن مشكلتها الأساسية في كونها عبارات فضاضة ضمن النصوص القانونية والدستورية التي يفترض أن تكون شديدة الوضوح والدقة. وهي بالتالي ليست سوى طريقة تقمع بها الدول الديكتاتورية مواطنيها بـ"قوة القانون"، حيث يسمح حيز الميوعة الموجود في تلك التركيبات اللغوية، من قبيل "وهن نفسية الأمة" أو "إضعاف الشعور القومي" و"النيل من هيبة الوطن"، للسلطة الحاكمة، بتوجيه اتهامات غامضة لكل من يخالفها، لأغراض سياسية أو انتقامية أو شخصية. ومجدداً يتم تغليف القمع وتقديمه على أنه مجرد قضايا شخصية بحتة، بزعم وجود "شكوى شخصية" كمحرك للملاحقة الرسمية. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها