الإثنين 2022/11/07

آخر تحديث: 15:19 (بيروت)

روتين المجازر في سوريا.. ألم التكرار بعد ألم المأساة

الإثنين 2022/11/07
روتين المجازر في سوريا.. ألم التكرار بعد ألم المأساة
أحد الأطفال الناجين من المجزرة (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أطفال قتلوا بدم بارد يحدقون في الفراغ، وأطفال يبكون والدهم القتيل، ورائحة الدم التي يمكن شمها عبر الشاشات الإلكترونية وشبح الموت الثقيل الذي يحضر بين الخيم المدمرة، تفاصيل مروعة حضرت مجدداً في مجزرة جديدة نفذها نظام الأسد وحليفته روسيا في إدلب، راح ضحيتها 80 شخصاً بين قتيل وجريح في حالة خطرة، إثر استهداف مخيمات لللاجئين بالقنابل العنقودية المحرمة دولياً.

وإن كانت الصور مؤلمة بحد ذاتها، فإنها تبدو استذكاراً لصور سابقة كررت نفسها منذ العام 2011. وغياب الصدمة عنها يعود ربما إلى أن أي متابع للحرب السورية اعتاد على الوحشية في تفاصيلها، مع غياب قوة تردع نظام الأسد عن جرائمه على مر السنوات الـ11 الماضية، والتي استخدم خلالها مختلف أنواع الأسلحة المحرمة دولياً، تحديداً الكيماوية منها، في الغوطة الشرقية وإدلب ومناطق أخرى.

ومع طول أمد الصراع فقدت الصورة قوتها، وتحول ما يحدث في البلاد إلى مجرد روتين للقتل اليومي، سمّته "لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا" في أيلول/سبتمبر الماضي بـ"النمط الكئيب". فأن يموت مدنيون في سوريا بقصف ما، هو المعتاد والمتوقع من مشاهدة خبر في نشرة أخبار عن سوريا أو عند ملاحقة هاشتاغ يحمل اسم البلاد بشكل أو بآخر في "تويتر". غير ذلك، هو الخارج عن المألوف والذي يستحق التغطية والاهتمام.


وحتى لو أصبح الوقت بين مجزرة وأخرى أطول نسبياً مما كان عليه في السنوات التي اشتد فيه الصراع في سوريا، فإن الشعور المرافق لها يبقى واحداً بعيداً من المفاجأة وأقرب لإدراك مؤسف بأن الأمر يتكرر مرة أخرى إنما بوجوه جديدة لضحايا يُقتلون بدم بارد، ولن يعيدهم التضامن والحزن الإلكتروني للحياة، خصوصاً أن ذلك الحزن والغضب وغيرها من المشاعر تبقى لحظية قبل أن يشيح المتابع نظره من الصور المؤلمة التي تذكره بعجزه ومدى قبح العالم الذي يعيش فيه، نحو محتوى أكثر بهجة في الإنترنت، بانتظار مجزرة جديدة يعيد فيها تكرار المشاعر نفسها.

وفيما تمتلئ الصور ومقاطع الفيديو بالقهر وتجعل كل من يراها في عجز تام لا تفيد معه الدعوات والحسرات، فلا يبدو مُجدياً أو حتى مُحقاً الحديث عن خيارات البشر "الأنانية" في تجنب ألم المشاهدة، ثم تقريع المتابعين في "تويتر" و"فايسبوك" على عدم اهتمامهم، كردّ فعل. فالاهتمام الفردي في هذه البقعة من الأرض ما كان يوماً مؤثراً، طالما أنه لا فرد هنا أصلاً ولا وجود لوسائل ضغط شعبية أمام نظام استبدادي، وطالما أن حسابات السياسة مختلفة تماماً، سواء من حلفاء الأسد الذين رعوا إرهابه الممنهج ووفروا له غطاء دولياً في مجلس الأمن على سبيل المثال، أو بين خصومه الذين باتوا لا يمانعون مصالحته والتطبيع معه. حتى الولايات المتحدة نفسها قالت، أكثر من مرة، منذ العام 2017، أن رحيل الأسد أو محاسبته على جرائم الحرب ما عادا من أولويات البيت الأبيض.

يتداول السوريون اليوم، صورة الطفل عزام، بوصفه أصغر ضحايا المجزرة الجديدة. يحدق في الكاميرا ببراءة أولاً، وصورته كجثة هامدة ثانياً. وجع صافٍ. لكن، رغم ذلك، ومع توالي وجوه الضحايا وكثرتهم على مر السنوات، لم يعد هناك وجه أيقوني جامع لفكرة الموت الجماعي في سوريا. الضحايا يتشابهون في موتهم المباغت، وبكاء ذويهم حولهم يتشابه بنبرة الألم نفسها. ترتفع أياديهم طلباً للمساعدة من المجهول، لكن أحداً لا يقدر على مساعدتهم، بالمعنى الحرفي للكلمة، وبالمعنى المجازي الأوسع الذي يشمل إيقاف الأسد عن ارتكاب المجزرة نفسها مرة تلو الأخرى، في مكان تلو الآخر، بفارق أيام أو أسابيع أو شهور.


وصورة عزام والضحايا الآخرين، تذكر بعشرات المقاطع الأخرى التي تشكل في مجموعها "الهولوكوست السوري"، وأبرزها وأكثرها إيلاماً ربما فيديو الطفلة السورية التي نجت من مجزرة الكيماوي الرهيبة في الغوطة الشرقية في آب/أغسطس العام 2013 وهي تصرخ "عمّو أنا عايشة". وهناك فيديو وصورة الطفل عمران دنقيش في حلب العام 2016، أو فيديو الطفل عبد الباسط الذي فقد رِجلَيه وعائلته بالقصف الهمجي لطيران النظام السوري بالبراميل المتفجرة العام 2017... وإيلان الميت/النام على شاطئ البحر هرباً من مصير المجازر الذي عاد تربّص به في رحلة فراره مع عائلته.

ومع كل فيديو ومع كل صورة مروعة قدمتها سوريا للعالم، كان التصور العام هو أن الحرب السورية بلغت الحضيض ولن تقدم الأسوأ، وفي كل مرة يثبت العكس، للأسف، ليتحول أبطال تلك الحكايات الموجعة إلى مجرد أرشيف يضاف إلى ما سبقه. وفي المجمل تفوقت الحرب في سوريا على كافة الحروب الأخرى، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، بعدما تنافس أطراف النزاع السوري على ارتكاب الفظائع مرة بعد مرة، مع تفوق النظام السوري في كمية المجازر التي يرتكبها ويصدّرها للعالم متباهياً بفرط القوة الذي يتبجح به ضد المدنيين وتحديداً الأطفال. وقد وثقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" مقتل 29856 طفلاً منذ انطلاقة الثورة السورية وحتى أيلول/سبتمبر الماضي.


طوال عقود درجت أخبار الصراعات "البعيدة"، في أفريقيا وفلسطين ودول عديدة تشهد صراعات دامية، على التقهقر إلى أواخر نشرات الأخبار. وهذه حال سوريا، فلا يمكن أن تقع مجزرة ما في سوريا ويتصدر عنوانها موقع "تويتر" عالمياً على سبيل المثال. ولم يعد الأمر يستدعي مرور عقد من الزمن لتحول أخبار حرب ما إلى "مجرد خبر"، بدليل الغزو الروسي لأوكرانيا الذي انشغل به العالم مطلع العام الجاري ولم يعد يتمتع بالزخم الانفعالي اليوم.

حالة تخدر المشاعر هذه أفضت أيضاً إلى حالة من الاستسلام، مردّه أن الحشد الإنساني الذي دأب عليه ناشطو المعارضة منذ الثورة السورية، عجز عن إحداث أثر حقيقي على الأرض، لأنه مهما كانت القضايا نبيلة في جوهرها لا يمكن الفوز بها من دون عمل جاد ضمن أنظمة السياسة والقانون. وهي لعبة برع النظام فيها بشكل هائل خلال سنوات الحرب، مستفيداً من خبرة عقود طويلة له في السلطة، لدرجة أن ضخه الدعائي بات قادراً على تقديم مبررات لا يحتاج إليها أصلاً، في ما يخص كل مجزرة أو جريمة حرب يريد الإقدام عليها.

واليوم، يفرد التلفزيون الرسمي السوري مساحات واسعة للحديث عن محاربة "أبطال الجيش السوري" للإرهاب، رغم أن المجزرة نفسها حصلت في مخيمات لللاجئين واستهدفت مدنيين بائسين لا تنظيمات إرهابية بالدرجة الأولى، ويرتفع مستوى التحريض في الإعلام الرسمي توازياً مع عمليات القصف الجديدة وتبلغ درك الدعوة للإبادة الجماعية والتطهير العرقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهي بالطبع دعوات تستحق المحاكمة والملاحقة الجنائية لو صدرت من طرف شخص ما في دولة غربية وقت السّلم.

ولا يكتفي إعلام النظام بذلك فقط، بل يحدد أيضاً "هدفاً أسمى" من استخدام العنف، يتخطى متعة العنف والتبجح بفائض القوة، بالقول ضمناً على الطريقة الميكيافيللية أن هناك ضرورة لقتل عدد إضافي من المدنيين من أجل الوصول إلى نهاية الحرب، والتي تعني وفق المنطق الرسمي استعادة السيطرة الكاملة على الأراضي السورية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها