الثلاثاء 2022/11/29

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

إقرأ.. فلن تصبح أبداً مليونيراً!

الثلاثاء 2022/11/29
إقرأ.. فلن تصبح أبداً مليونيراً!
صفا صديقي في "دبي بلينغ"
increase حجم الخط decrease
في سهرة منزلية مع بعض الأصدقاء في منزل، دارت نقاشات كالعادة حول الأدب، الكتب والروايات. تطرقنا إلى كل ما يخطر في البال من إصدارات حديثة في عالم الأدب والفكر، أسعار الكتب الحالية، والبدائل الإلكترونية المتاحة لتفادي شراء الكتب والملل الذي يصاحب بعضها أحياناً، فتتمنى لو أنك لم تدفع فيه قرشاً. ناقشنا الكتّاب الجدد تفصيلياً، والمفضلين/ات لكل منا، وحمى النشر لكل مَن لديه أو ليس لديه ما يكتبه، الكتب التي أثّرت فينا وما أضافته لنا. وبما أن بعضنا كاتب أيضاً، بالإضافة إلى الشغف المشترك بيننا كقراء، تحدثنا عن فِعل الكتابة، والمشاريع المفتوحة، وأسلوب كل منا ومعنى الكتابة والهدف، إلى ما هنالك من مواضيع تشعبت وامتدت لساعات طوال بلا ضجر.

أتينا على سيرة صديقي الذي يملك مكتبة تضم مئات الكتب المتنوعة، وقد نقلها معه من بلد اغترابه، إذ إصرّ على نقل كنزه الذي جمعه طوال سنوات إلى لبنان! هنا، تذكرت كيف اضطررت إلى ترك كل كتبي لمكتبة عامة في مونتريال عندما قررت العودة أنا الأخرى إلى لبنان. وشعرت فجأة بحزن وغضب وندم. فرغم إنه كان مستحيلاً أن أحمل كتبي كلها، بسبب الوزن، إلا أنه كان في إمكاني إيجاد حلول أخرى. الحقيقة، لحظتها، لم تكن لدي الطاقة للتفكير وخلق حلول. وكنت آمل وقتها في إعادة تكوين مكتبة خاصة، وشراء جميع الكتب من جديد، وهذا للأسف لم يتحقق. فالمفاجأة أن الشرق، ومنذ أن حللت فيه من جديد، دخل النفق المظلم اقتصادياً واجتماعياً، وأصبح شراء الكتب من الرفاهية وليس من ثوابت وضروريات حياة الكائن المشرقي.

فتحنا التلفزيون لمشاهدة فيلم لتمضية بقية السهرة وقد تعبنا من الكلام. استوقَفنا برنامج "دبي بلينغ"، أحد أحدث الأعمال العربية على نتفليكس. بطريق "تلفزيون الواقع"، نتابع حياة عشرة أشخاص فائقي الثراء، يعيشون حياة الرفاهية في دبي، بعدما حققوا ثروات من مجالات العقارات والإعلام والماركتنغ في السوشال ميديا، أو ببساطة عبر الزواج من مليونيرات!

قررنا مشاهدة حلقة أو اثنتين بدافع الفضول. صعقتُ شخصياً من هذا الثراء الفاحش، قصور وماركات ومجوهرات. هذه المشاهد "النظيفة" من أي قبح ظاهري ممكن، مشاهد تدغدغ الأحلام للحظات. أحلامي وتطلعات الرفاق. نظرنا إلى بعضنا البعض، وإلى الطاولة الخشبية في وسطنا حيث إبريق الماء الساخن، كاسات الشاي والمتة، وصحون البزر الصغيرة. ومرة أخرى إلى شاشة التلفزيون، حيث تتوالى مشاهد البذخ. وانتابتنا نوبة من الضحك الهستيري.

فعلاً، كم أننا بعيدون من هذه الأجواء... وفاشلون! بمنطق رأس المال العالمي، نعم بكل تأكيد فاشلون. ومع تتابع الحلقات والترميز لمشاكل "الأبطال" السطحية، طريقة عيشهم وحواراتهم، تنفسنا الصعداء مجدداً، وردّدنا في ما بيننا إننا لا نريد مثل هذه الحياة المعتمدة فقط على المظاهر، فالمال لا يجلب السعادة، وهؤلاء فارغو العقول، و..و..و..

أكملنا السهرة ونحن نكذب، على أنفسنا وعلى بعضنا البعض. انقطعت الكهرباء، فجأة، وساد الصمت. كل غرق في أفكاره وماضيه، مستقبله وخياراته التي أوصلته إلى هنا، إلى جلسة هدفها نبيل لكنه لم يعد ذا أهمية تذكر في هذا الجرف الذي نعيش بداخله.

انسحقتُ في أفكاري، وثبُتَ نظري على الكتب الكثيرة قبالتي والتي قرأت معظمها، وتملّكني السؤال، أيمكن أن تكون الكتب فعلاً هي مغناطيس الفقر في بلادنا؟! وإلا لماذا لا يملك معظم الأدباء والمفكرين العرب المهمون، المال؟ ألأنهم لا يملكون المال صاروا كتّاباً وقراء ومفكّرين؟ وتتوالى الأسئلة من كل أركان رأسي. كيف ومتى أصبحت كاتبة؟ وكيف ومتى يصبح الكاتب كاتباً؟ وكيف يمكن أن يجني الكاتب المال من كتابته؟ وهل فعلاً الكتابة يمكن أن نعرّفها كمهنة؟ هل كون الكاتب يكتب، فهذا حُكماً عمله؟ عشرات الأسئلة التي بكل تأكيد مرت وتمر على الجميع، ونختصرها بتلخيص عام وكلّي، في سؤال: جدوى الكتابة للكاتب والمجتمع..

عندما قررت أن أصبح كاتبة، كان الوعي قد تكوّن على مراحله الطويلة، ومع تجاربي المتعددة في الحياة، وأصبح النضوج كاملاً متكاملاً وطازجاً، وكان القرار بكتابة سرديتي في اللحظة التي تملكتني فيها مشاعر متقلبة بين الغضب من الشرق والحنين إليه، ووجدتني أتورط في الكتابة. لكن كيف يصبح الكاتب كاتباً؟! هذا ما لم أجد له إجابة شافية عندي أو عند الكتّاب عموماً، وجدتني أنخرط في العملية الإبداعية بقرار مسبق ليس له من دوافع محددة. لكني عندما أواجه نفسي وأطرح عليها سؤال: هل الكتابة مهنة؟ ففي أغلب الأحيان، بمحاولة الإجابة عن هذا السؤال، سنجد الطريق تسير بنا نحو النفي. فبقدر ما هي مهنة، هي أيضاً ليست مهنة. هي حِرفَة، طبعاً، قد تتقاضى عنها أجراً، وقد تدفع من جيبك لأجلها، لكنك في النهاية ستقف حائراً بين كونها مهنة أم لا.

ووسط حيرتك هذه، ستجد الكهرباء وقد عادت والمصباح يرمي نوره، والبراد يزعجك بمحرّكه، وتغطس في عملية الحياة اليومية والعادية، قبل أن تخطف للحظات متعة الكتابة، متعة الاكتشاف والتعري، متعة المواجهة. لكنك، مع أول انقطاع للكهرباء، ستعود لحيرتك حول ماهية الكتابة وجدواها. لكن ما ستتأكد منه كل حين، أنك هنا في هذا الظلام، ليس بمحض الصدفة، بل كي تكتب عنه وعن الملايين الذين يعيشون فيه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب